رواية “الموت عمل شاق” التي اختارتها صحيفة “ وول ستريت جورنال” ضمن أفضل عشرة أعمال في عام 2019ستظل شهادة أدبية للحرب السورية لحياة جيل ضاع وهو في رحلته نحو الخلاص سواء كان ذلك الخلاص من الماضي أو من الموت نفسه. نجح خالد خليفة في جعل الموت ليس مجرد حدث عابر، بل رحلة شاقة تُعيد صياغة معنى الحياة في زمن الحرب حيث تتقاطع فيها آلام الفرد مع جراح الوطن، حيث يتحول نقل جثة الأب إلى استعارة مأساوية لحمل تاريخ ثقيل من الخيبات والأحلام المجهضة. في نهاية المطاف، هذه ليست مجرد قصة عن الموت، بل عن العبء الهائل للحياة في زمنٍ فقد فيه الجميع بوصلة النجاة. “في الحرب, الموت الذي لا يراكم غضبًا لا يعوّل عليه.” أغلق خالد خليفة قلبه وعينيه للمرة الأخيرة في دمشق في 30سبتمبر2023 ليترك روحه حية في صفحات رواياته. رواياته التي بقيت شاهدًا على تمزقنا وخيباتنا وإنكساراتنا وغيرت مفهومنا التقليدي لمعنى الحياة والموت . تجسد رواية “الموت عمل شاق” مأساة وطن بأسره في جثة أب تتفسح خلال رحلة تعكس التمزق العميق في الروح السورية، ليس فقط بفعل الحرب، بل بفعل تاريخ طويل من الخيبات المتراكمة. يقدم خليفة صورة دقيقة للإنسان السوري الذي أصبح الموت جزءًا من يومياته، لكنه لا يزال يحاول” ربما عبثًا “التشبث بالحياة و البحث عن معنى الحياة وسط هذا الخراب. ما يميز “الموت عمل شاق” هو قدرتها على تحويل تفاصيل الحرب الصغيرة إلى أسئلة وجودية كبرى عن الحياة التي أصبحت، في زمن الحرب، أقسى من الموت ذاته وهذا ما يعنيه البقاء على قيد الحياة في عالم يتفكك أمامك. خالد خليفة لا يقدم لنا رواية سهلة أو مريحة على العكس يدفعنا إلى مواجهة الحقائق القاسية للحرب, لا من خلال مشاهد القتال العنيف بل من خلال قصص الناس العاديين الذين حُشروا في زوايا ضيقة، يواجهون مصائرهم بلا مفريحاولون التفكير كيف يمكن أن نحيا وسط كل هذا الدمار. “الموت في الحرب لا صدى له فهو في كل مكان, ورغم ذلك فهو عمل شاق وصعب بكل تفاصيله كما هي الحياة أيضاً”. في الرواية مستويين :المستوى الاول الأحداث الآنية التي تجري في الوقت الحاضر والمستوى الثاني: العودة الى الماضي, الماضي الذي يُحَمِله الكاتب ماوصلنا إليه من الحروب ويعتبر الحرب تصفية لحسابات كانت مؤجلة إلى يومنا هذا, فالحرب كانت ترافق أبطال الرواية في حياتهم وكأنها جزء لا يتجزأ منها , بينما الحدث الرئيسي للرواية مستمر. رواية “الموت عمل شاق “ المرشحة لجائزة أفضل الكتب المترجمة, تدور أحداثها حول عبد اللطيف السالم الذي أوصى ابنه نبيل المعروف بلقب “بلبل” بدفنه في قريته العنابية الواقعة في ريف حلب, هذه الوصية التي تفتح أمام العائلة أبواب معاناة جديدة بالإضافة إلى حرب لا تتوقف معاركها. تبدأ الرواية بوفاة الأب، لكن روح عبد اللطيف تظل حاضرة في وجدان أبنائه، حيث تتوزع السرديات لتتناول الرحلة المضنية التي يضطرون للقيام بها لنقل جثة أبيهم من دمشق إلى حلب،مدركين أن سعيهم لتحقيق راحة روح والدهم يتعارض مع واقعهم الصعب ، فتمنى نبيل لو كانت جثة والده أكياس كمون لتمكن من تهريب جثمانه بسهولة عبر الحواجز. هذه الرغبة تعكس الصراع النفسي الذي يعاني منه نبيل”الولد الأكبر لعبد اللطيف “ والذي يجد نفسه محاصراً بواجبات تتزايد تعقيداً في ظل هذه الظروف القاسية,هو الذي أصبح يخاف من كل شيء حتى من أصدقائه والجيران,في زمن الحرب أصبحت لديه مهارة وحيدة “الحفاظ على حياته و صنع المخلل,لنصل معه إلى السؤال الوجودي العبثي ماذا سيفعل بحياته بعد الحفاظ عليها. يحكي لنا نبيل الاحداث بصوت الراوي المتكلم, وينتقل السرد أحيانًا الى صوت الراوي العليم وهذا ما سمح للشخصيات الأخرى التعبير عن نفسها بشكل أفضل . يريدون الأخوة الثلاث نقل جثة أبيهم من الشام إلى قرية العنابية في حلب لتنفيذ وصيته فهو أرد أن يُدفن إلى جانب شقيقته (التي اختارت موتها بنفسها ولم تقبل العيش حياة ذليلة مع رجل لا تحبه) خلال هذه الرحلة الشاقة نعيش الحرب ونلمس بأيدينا أثارها على البشر قبل الحجر . الشخصية المحورية الزمنية في الحاضر والماضي شخصية الأب عبد اللطيف البعثي القديم الذي عاش حياته مؤمنًا بأن “العلم كفاح والسياسية تضحية و بأن فلسطين ستتحرر كاملة”كان رجلًا محترمًا مثقلًا بالمثاليات يعيش في الماضي المجيد لفكرة القومية العربية ,أمضى حياته كلها في ريف دمشق إلى أن وقعت الحرب فمرضى وماتت . مثاليات الأب وتميزه أنعكست سلبًا على الأبن الأصغر “حسين”الذي كان يرفض البيئة المحيطة به ويكره رضا أهله على حياتهم ويحلم بالقفز لطبقة السلطة والمال. غير معجب بأبيه أبدًا,مندفع ومتهور يتبع شهواته وأطماعه ينتقد الاخرين بشكل كبير ولا يتقبل النقد أوالنصح من احد. تغيرت حياته في المرحلة الثانوية حيث عشقته امرأة في الثلاثين من عمرها, اشترت له سيارة لتوصيلها وتوصيل رفيقاتها ولتأمين الحشيش والكوكايين لهم. المرأة عند خالد خليفة هي الأخت المستكينة والأم المضحية والزوجة التقليدية والحبيبة الجريئة . تعيش أخته فاطمة تجربة تعكس واقع معظم النساء في زمن الحرب أصيبت بالخرس في نهاية الرواية ,والخرس هنا يرمز إلى صوت المرأة المغيب في مجتمعاتنا ففاطمة تمثل كل امرأة سقطت ضحية للضغوط النفسية والاجتماعية، وأصبحت رهينة للظروف القاسية من حولها. يظهر الكاتب قوة النساء من خلال شخصية لميا” الحبيبة السابقة لنبيل” التي حولت منزلها إلى ملجأ للسوريين المهجرين. كانت لميا تمثيلا للأمل والإنسانية في عالم ممزق، تمثيلا للجسور التي تربط أفراد أبناء المجتمع وتسعى جاهدة لمساعدة الآخرين، مؤكدة على قدرة النساء على الصمود والتحمل رغم كل التحديات لتبقى لميا الحقيقة الوحيدة التي كان بإمكانها انقاذ بلبل وإنقاذ الوطن وإنقاذنا جميعاً. * شاعرة سورية