الضياع وعدم القدرة على اتخاذ الخيار الصحيح، يوصل المأساة إلى حافتها، فالفرد الذي عاش حياة مليئة بالعذابات، يصاب بنوع من المرض الثقافي، فيرغب بعودة العذابات واستمرارها، ليس بالنسبة له فحسب، إنما لقومه وشعبه وأمته؛ واضعاً في حسبانه أنها تحتاج الارتقاء بها إلى حال أفضل تحاكي من خلاله المستعمِر، الذي جثم طويلاً على صدرها. الخطاب الاستعماري خطاب ثقافي؛ يسعى إلى تكريس هيمنة الدول المستعمِرة على بقية دول العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً؛ لتكون الأنموذج الذي يُحتذى، والصورة التي ينبغي أن يتمثَّلها الناس في مجتمعاتهم وبيئاتهم، وهو ما حدث للشاب الأفريقي “إلياس”، الذي هاجر من بلاده مع خروج القوات “الألمانية” المستعمِرة، فذهب معها وحصل على حق الإقامة والعيش في بلادها، مستفيداً من خدمته العسكرية في صفوفها، لينتهي به المطاف مطالباً بعودتها واحتلالها لبلده من جديد. مرحلة تاريخية فارقة عاشتها القارة الأفريقية مع نهايات القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، الذي شهد انتهاء الإمبراطوريات الاستعمارية وتفككها وزوال هيمنتها على دول العالم، وهو ما قاربه عبد الرزاق قرنح في روايته (ما بعد الموت)، متبنِّياً خطاباً مضادًّا لخطاب الاستعمار، عاملاً على تفكيكه وبيان عيوبه، التي من أبرزها الانتقال بالدول المستعمَرة من حالة التخلف والجهل إلى التحضر والتقدُّم. تحكي الرواية عن الحرب الدائرة بين الدول الأوروبية “ألمانيا – بريطانيا – بلجيكا – إيطاليا – البرتغال - فرنسا” لاقتسام الهيمنة والنفوذ على دول شرق القارة الأفريقية “كينيا – أوغندا – تنزانيا – الصومال” وما جاورها، حيث استعانوا بجيوش من المرتزقة، الذين جُلِبوا من المستعمَرات التابعة لهم كـ”الهند وجنوب أفريقيا” إضافة إلى الدول التي خضعت لسيطرتهم سياسيًّا وعسكريًّا وثقافيًّا. تدور الأحداث بشكل خاصٍّ في تنزانيا وأجزاء من محيط الدول القريبة منها، فالحدود لم تكن مرسومة بشكل دقيق، إذ تتداخل المناطق وتتلاقى وقد تنتقل من ملكية دولة أوروبية إلى أخرى، نتيجة حرب تُخاض أو تفاهم سياسي، كما حدث بين الألمان والبريطانيين، الذين كان التنافس بينهم على أشدِّه بداية القرن العشرين؛ نتيجة لرغبتهم في استغلال الدول الأفريقية، والاستفادة من ثرواتها الطبيعية والبشرية. تأثرت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لسكان تلك المناطق، حيث “الحصار البحري البريطاني” تسبب بشح المواد وكساد التجارة؛ فارتفعت الأسعار وقلَّت اليد العاملة، بسبب الحاجة لتجنيدها في المعارك الدائرة مع الألمان؛ ما أدَّى إلى انخراط مئات الآلاف في الجندية، إضافة إلى الحاجة الماسة لـ”عمال وحمالين” يقومون بنقل الأمتعة والأسلحة ولوازم الجيش، وهؤلاء لم يكن لهم نصيب من أرباح الحرب، رغم أنهم أول من يُفتك به. تنطلق القصة من بلدة صغيرة على الساحل، تعرضت لكساد في أعمالها وتجارتها؛ نتيجة المناوشات العسكرية بين ألمانيا وبريطانيا، حيث أسست ألمانيا فرقة “الشوتزتروبه” وبريطانيا فرقة “بنادق الملك الإفريقية”، والفرقتان اعتمدتا على الجنود والعمال والحمالين الأفارقة، أما الضباط والمسؤولون فمن الألمان والبريطانيين، وقد استمرت المعارك بينهما لسنوات، استطاع البريطانيون خلالها تحقيق الانتصار وبسط نفوذهم على مناطق الساحل؛ ما أدى إلى إخفاء الكثيرين لمشاركتهم في الحرب؛ كي لا يتم اعتقالهم وسجنهم. عانت العائلات صعوبة شديدة في توفير المستلزمات الحياتية، ومن ضمنها عائلة “خليفة” وزوجته “عائشة” قريبة التاجر “عامر بياشارا”، الذي فاجأه الموت دون أن يفصح عن إقراضه للمال لعديد من التجار؛ ما أدخل ابنه “ناصر بياشارا” في انتكاسة كادت تودي بجميع تجارته وممتلكاته، كما هو حال البيت الذي يسكنه خليفة وعائشة، إلا أنه استطاع الصمود بفضل اتجاهه لتهريب البضائع بين الموانئ؛ ما مكَّنه من تجاوز الحصار البحري الخانق، وتحقيق مكاسب كفلت استمرار تجارته وأعماله، وخلال هذه الفترة تعرَّف خليفة على “حمزة”. خُطف حمزة من عائلته صغيراً، فلم يعرف أباه وأمه، وحينما كبُر انضم إلى فرقة “الشوتزتروبه” مؤملاً أن يكون جنديًّا، لكن لسوء حظه أصبح “خادماً شخصيًّا للضابط الألماني يوليوس”، ففشل في تحقيق حلمه، ولمَّا حصلت المعارك شكَّ فيه “ضابط الصف الفيلدفيبل الألماني فالتر” وظن أنه سبب هروب الجنود؛ لأنه استمع لمحادثاته مع الضابط يوليوس، فهاجمه وأصابه إصابة بليغة في فخذه؛ احتاجت لأشهر من أجل أن تتعافى؛ ليعود بعدها إلى بلدته ويسكن غرفة خارجية في منزل خليفة. أحب حمزة الفتاة “عافية” التي رعاها خليفة وعائشة، واعتبراها ابنتهما بعد ذهاب أخيها الأكبر “إلياس” إلى الحرب وغياب المعلومات عنه، ونتيجة لحبهما تُوجت العلاقة بالزواج وإنجاب طفل قرَّرا تسميته على اسم الأخ الغائب، أولياه كامل عنايتهما واهتمامهما ولهذا جاء مختلفاً في سلوكه وحديثه عن بقية الأطفال، حيث والده يراه طفلاً “حالماً”، أمَّا والدته فداخلها الخوف عليه حينما سمعته يتحدث مع أشخاص لا يمكن رؤيتهم، فاندفعت للاستعانة ببعض “السحر” لمعرفة ما أصابه. جلبت عافية فرقة من السحرة وجلست معهم ضمن “حفلة” أقيمت داخل بيتها لإخراج “الجنية” من رأس ابنها، حيث تكشفت الأمور عن أنها تبحث عن إلياس الكبير، وبسبب تشابه الأسماء والقرابة بين الولد وخاله تلبَّسته، وأخبرتهم أنها لن تترك الصبي إلا حينما تحصل على الخال؛ ما دفع حمزة للتواصل مع “المبشِّر الألماني وزوجته” اللذان عالجا إصابة فخذه؛ حيث أرسل لهما رسالة يطلب مساعدتهم في العثور على الفتى الضائع، ليتفاجأ بردٍّ لم يتوقَّعه إذ أعلماه أنه يعيش في ألمانيا لكنهما لا يعرفان أين يسكن. اختفت الأصوات من رأس إلياس الصغير بعد الحفلة، واستطاع إكمال دراسته بنجاح، كما حصل على فرصة للابتعاث إلى ألمانيا “لدراسة تقنيات البث الإذاعي المتقدمة”، وكان من المتطلبات “إتمام مشروع صحافي يتضمن إجراء البحوث وتسجيل المقابلات”، ومن هنا ابتدأت رحلة البحث عن الخال الضائع، ليكتشف أنه عاش وتزوج من ألمانية وأنجب منها ولداً، كما أصبح ناشطاً “يشارك في مسيرات رابطة مستعمرات الرايخ، إحدى منظمات الحزب النازي”؛ المطالبة بعودة الاستعمار للدول الأفريقية التي فقدتها ألمانيا نتيجة خسارتها الحرب العالمية الأولى وتوقيعها “معاهدة فرساي”، لكن خلال سنوات الحرب العالمية الثانية تم القبض عليه وإيداعه السجن، فما كان من ولده “بول” إلا أن تطوَّع ليكون بجواره من أجل رعايته، وانتهت قصتهما نهاية مأساوية، فالأب توفي داخل السجن بينما الابن “أعدم بالرصاص لمحاولته الهرب”. المفارقة في الرواية تكمن في نهايتها، حيث يفترض أن تنتهي مع شفاء إلياس الصغير، وبهذا تكون أنجزت خطابها المضاد حول مآسي الاستعمار والمشكلات التي أحدثها وهذا ما لم تفعله، إذ عمدت إلى إدخال قصص خرافيَّة تتعلق بالجن والسحرة لتنتقل من أفريقيا إلى أوروبا؛ بهدف كشف التأثير الثقافي الذي حدث في عقول الأفارقة القاطنين هناك، والذي تمثَّل في رغبتهم بعودة الاستعمار إلى بلادهم! التأثير الثقافي العميق في عقول الأفارقة يعني خضوعهم لحالة استلاب أفقدتهم القدرة على اتخاذ قرارات صحيحة ومؤثرة في حياتهم؛ لهذا جاءت اختياراتهم خاطئة وظلوا في حالة من الضياع والتشظِّي بين هوية حقيقيَّة ينتمون إليها وهوية مُستبدَلة حصلوا عليها من المستعمرِين، وهو ما اكتشفه الضابط الألماني منذ وقت مبكِّر، حيث صرَّح لحمزة أثناء خدمته في الشوتزتروبه: “أضعتَ مكانك في هذا العالم. لا أدري لمَ يهمني هذا الأمر لكنه يهمني. أو.. ربما لا أدري. لا أظنك تعلم عمّا أتكلم. لا أظنك تعلم ما الأهوال المحيطة بك. انصرف إلى أعمالك”.