طايع الديب «طريق الحرير» لعب دوراً في التبادل الثقافي والعلمي.. كيف طلب الصينيون العلم عند العرب؟

إذا كان تأثير العلماء العرب والمسلمين القدامى في العلوم الأوروبية معلوماً للكافة، فإن تأثيرهم في الحضارة الصينية مازال موضوعاً فريداً لم يتطرق إليه كثير من الباحثين. وذلك لأسباب عدة، أولها التباعد الجغرافي بين الجانبيّن، فضلاً عن اختلاف اللغة والثقافة، ما أدى إلى الاعتقاد الشائع بعدم توافر فرص كافية للتلاقي الحضاري، أو “التأثير والتأثّر” بين العرب والصينيين. غير أن كتاب “العطاء العلمي للعلماء العرب والمسلمين في الحضارة الصينية”، للدكتور كرم حلمي فرحات أحمد، الصادر مؤخراً عن دار “المكتب العربي للمعارف” بالقاهرة، يكشف النقاب عن جوانب شبه مجهولة في هذا الملف غير المطروق، خصوصاً في ظل محاولات التقارب الملحوظة التي يقوم بها الجانب الصيني حالياً مع المنطقة العربية، وسعي الصين إلى إعادة تقديم نفسها من جديد للرأي العام العربي. وإذا كان الحديث النبوي الشريف يقول (اطلبوا العلم ولو في الصين)، فإن الصينيين - بدورهم- طلبوا العلم من العلماء العرب والمسلمين، الذين كانت لهم السيادة العلمية في العصر الوسيط، وقدّموا للعالم أجمع إنجازات علمية لا نظير لها. ومنذ نحو ألفيّ عام، ربط “طريق الحرير” الواصل بين الشرق والغرب، الحضارتيّن الصينية والعربية. لم يكن هذا الطريق مجرد ممر عالمي للتجارة والسفر فحسب، وإنما كان أيضاً سبيلاً للتبادل العلمي والثقافي بين أمم العالم، ومن بينهم الصينيون والعرب في العصور الوسطى. وعبر ذلك الطريق المشهور، أرسل الخليفة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، مبعوثاً خاصاً إلى الصين في عام (31ه/651م). ومنذ هذا التاريخ، أصبح الجانبان يتعلمان من بعضهما، وينقلان علوم كل منهما إلى الآخر. ويشير المؤلف، بدايةً، إلى أن العلاقة بين العرب والصينيين لم تكن وليدة العصور الإسلامية فحسب، بل سبقت ظهور الإسلام. وقد دلّ التراث الإنساني في أرض الصين على الأثر الفاعل للعرب في التجارة الدولية. كما دلّت الآثار الحضارية التي احتفظ بها الصينيون في تراثهم على ذلك الأثر الكبير للعرب، وعلى أن هؤلاء العرب كانوا واسطة العلاقات التجارية بين الشرق والغرب. كانت التجارة هي معبر الإسلام الأول إلى المجتمع الصيني، على المستويين الرسمي الشعبي. حيث ازدادت معرفة الصينيين بالدين الإسلامي من خلال هذه العلاقات التجارية حتى اعتنقه عدد كبير منهم، بفضل التجار المسلمين الذين بلغت أعدادهم بالآلاف، وكانت لهم السيادة على السوق الصيني منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي (العاشر الهجري). العرب “سادة الفلك” تبعاً لذلك، أسهم علماء الحضارة الإسلامية إسهامات متنوعة في تاريخ العلوم والتكنولوجيا الصيني، أهمها إسهامهم في علوم الرياضيات والحساب، فقد تُرجم العديد من مؤلفاتهم في الرياضيات إلى اللغة الصينية. ونجد في قوائم الكتب المُسجلة في المكتبة الملكية لأسرة “يوان” الحاكمة كتباً عربية مترجمة عن اليونانية في علوم الرياضيات، مثل كتاب “السفينة الهندسية”، وكتاب “الطرق الحسابية”، وكتاب “طريق حساب السطوح” وهو من مؤلفات “إقليدس” اليوناني، وقد ترجمه جمال الدين الفلكي المسلم الذي أطلقت عليه المصادر الصينية اسم “زامادونج”. وينقل المؤلف عن الكاتب الصيني إبراهيم فنغ جين قوله: “انتقل علم الرياضيات المتقدّم إلى الصين على أيدي المسلمين، مما جعل الصين تتقدّم إلى الإمام في هذا المضمار. ففي ظل ذلك، ظهر رياضي عظيم في الصين يُدعى “قوه شو جينغ”، استفاد من نظريات العلماء العرب عن المثلث المتساوي الساقين، وكان أول من اتخذ أصول المثلثات القوسية الشكل التي ابتكرها المسلمون لقطع الدائرة. ولا يفوتنا أن الأرقام العربية انتقلت إلى الصين في عهد أسرة يوان أيضاً”. وأظهرت الآثار المكتشفة حديثاً في الصين، مدى تأثير علماء الرياضيات المسلمين في علم الرياضيات عند الصينيين، فقد تم العثور منذ عدة سنوات على خمسة مربعات حديدية متساوية الحجم والطول والعرض، داخل أربعة أحجار مربعة، محفورة فيها أرقام عربية مرتبة ترتيباً حسابياً بمجموع واحد في كل الاتجاهات. وبعد دراستها، تبيّن أنها من اختراعات المسلمين في علم الرياضيات. وظهر التأثير العلمي الذي تركه العرب على الرياضيات الصينية في أشكال أخرى، فقد استخدم العلماء الصينيون أيضاً في العصور الوسطى نظام العَدّ العربي، وكذلك استخدموا الصفر في العمليات الحسابية، فقد انتقل لوح العَدّ الذي ابتكره الرياضيون المسلمون في عهد أسرة “مينغ” (1368- 1644م). ودبجّ الرياضي الصيني المعاصر “لي يان” مقالة بعنوان “العلاقة بين الإسلام والحساب الصيني”، ألقى فيها الضوء على لوح العَدّ، مؤكدا أنه انتقل إلى بلاده على أيدي التجار العرب في القرن الرابع عشر الميلادي. كما استفاد علماء الرياضة من قومية “هان” من لوح العدّ العربي في إجراء الحسابات التقويمية، وكانوا يستخدمون رموزاً عربية للأعداد. وهناك نوع آخر من طرائق العدّ كان شائعاً في بلاد العرب، وقد انتقلت هذه الطريقة هذه إلى الصين، على أيدي التجار المسلمين. وذكر الرحالة الإيطالي المعروف ماركو بولو، في كتاب رحلاته المشهور، أنه التقى خلال تجواله في أرض الصين عام 1296م، باثنين من كبار المهندسين المسلمين، هما علي الدين الموصلي، وإسماعيل الهروي، اللذيّن أدخلا إلى البلاد هندسة البناء الحجري الحديث، حيث إن أغلب منشآت الصين في تلك الفترة كانت خشبية. من جهة ثانية، سجلت المصادر الصينية المكتوبة في القرن الثاني عشر الميلادي، مدى حرص الصينيين على الاستفادة من تطور علم الفلك في الحضارة العربية الإسلامية. وكان الإمبراطور الصيني “تشو يوان تشانغ” قد مجدّ التقويم الهجري قائلاً: “إن التقويم الهجري هو الأدّق من نوعه في رصد الظواهر الفلكية، وتواريخ خسوف القمر وكسوف الشمس”. وفي وقت مبكر، استفادت الحضارة الصينية من علماء الفلك المسلمين، مثل العالم علي بن عبد الرحمن الصيرفي (ت 399هـ/ 1008م)، المعروف باسم “ابن يونس المصري”، حيث نقل الصينيون عنه معلومات فلكية مهمة خاصة بما يُسمى “الزيج الكبير”، الذي وضعه الصيرفي فوق جبل المقطم بالقاهرة، لقياس خسوف القمر وكسوف الشمس. وكانت تلك المعلومات هي الأساس الذي استفاد منه العالم “ليو - تشو - تساي” في وضع تقويم “مادابا” الصيني. ويُعد حيدر عطف الدين، أشهر علماء المسلمين الذين أشرفوا على الأمور الفلكية في الدولة الصينية آنذاك. فقد حظي “عطف الدين” بتقدير أباطرة أسرة “منغ” الذين أصدر أحدهم مرسوماً بتشكيل فريق من العلماء العرب، وأسند إليهم مهمة ترجمة المؤلفات الإسلامية التي استُخرجت من خزائن أسرة “يوان” المغولية، وقد تجاوز عددها مئة مؤلف، وبها عدد كبير في علوم الفلك. كما أحرز علماء الفلك في عهد أسرة “يوان” تقدماً كبيراً، باعتمادهم على الوسائل والأدوات المتقدّمة التي أدخلها لهم العرب، مثل “الإسطرلاب” وجهاز قياس الانحراف، وجهاز قياس المستوى. ويرجع الفضل في ذلك، للعالم الفلكي المسلم جمال الدين محمد بن طاهر البخاري، الذي انتقل إلى بكين في عهد الخان المغولي “قوبلاي خان” لإنشاء مركز للأبحاث الفلكية، حيث كان الصينيون ينظرون إلى العرب باعتبارهم “سادة الفلك”، في ذلك الزمان. “دار النعمة” العربية كان للعلماء العرب تأثيرات كبرى على نظرائهم الصينيين في مجال الطب وصناعة العقاقير، كما يؤكد الكاتب. ولم تنتقل هذه التأثيرات مصادفة، بل جاءت نتيجة لسعي أباطرة الصين للاستفادة من التقدّم الذي أحرزه العرب في هذا المجال، ومن أهم مصادره كتاب “القانون” في الطب للعالم الشهير ابن سينا، صاحب لقب “الشيخ الرئيس”. وهو الكتاب الذي عُثر عليه مخطوطاً باللغة العربية في مكتبة بكين القديمة، وتم ترجمته والاستفادة به على نطاق واسع في الصين. ومن أشهر الأطباء الصينيين المسلمين “لي شون”، الذي وضع كتاباً بعنوان “العقاقير العشبية غير الصينية”. وهو يُعد أول مرجع طبي صيني عن العقاقير العربية، ومعظمها تم جلبه أو معرفة تركيبته الصيدلانية عبر العلوم التي قدّمها الصيادلة العرب للصينيين. وذكر الأديب الصيني المعروف “تاو زون يي” في كتابه “أحداث في العزلة”، أنه شاهد بنفسه نطاسياً (طبيباً) عربياً مسلماً يُجري عملية جراحية لطفل صيني في البلاط الإمبراطوري، وأن هذا الطبيب استطاع أن يستخرج ورماً خبيثاً من دماغ الطفل، الذي كان يعاني ألماً شديدا في رأسه، لكنه تعافى من مرضه بعد ذلك بوقت قصير. وتشير مصادر صينية، إلى أن الإمبراطور “تاي – نوتغ”، أحد أباطرة أسرة “سونغ”، أمر باستيراد 37 عقاراً طبياً من الدولة العباسية. وذلك بسبب الموثوقية الكبيرة التي كانت تمتع بها العقاقير الطبية العربية في الصين وقتها. هذه المصادر، تؤكد أن الصيادلة العرب كان يفتتحون حوانيت مخصصة لبيع العقاقير في بعض الأقاليم الصينية، أو كانوا يتجولون لبيعها في البلاد، وبلغ عددها 124 نوعاً مختلفاً من الأدوية المعتمدة آنذاك، ما يشير إلى قوة التأثير العلمي العربي في ذلك الحين، خصوصاً بعد أن تولى علماء عرب الإشراف على انتاجها في مكان كان يُسمى “دار النعمة”، جرى فيه تعليم الصيادلة الصينيين كيفية صناعتها، باستخدام خامات مستوردة من بلاد العرب. *صحافي، عضو اتحاد كُتاب مصر.