أديب وخطيب.. أمام علامات الإعراب وعلامات الترقيم.

ذكر أحمد زكي باشا ( 1284 ـ 1934) في كتابه (الترقيم وعلاماته في اللغة العربيّة), أنّ أرسطوفانس, من روم القسطنطينيّة في القرن الثاني قبل الميلاد, هو أول من اهتدى لعلامات مخصوصة لفصل الجُمَل وتقسيمها, حتى يستعين بها القارئ عند النظر إليها, إلى ما هنالك من تمييز القول بما يناسبه من تعجب واستفهام, ونحو ذلك. كما ذكر أنّ العرب قبل البعثة النبويّة, كتبوا كتابًا واحدًا جعلوه سطرًا واحدًا, موصول الحروف كلها غير متفرق, ثم فصلوا الحروف في عهد النبوّة, ولكنها بقيت خالية من النقط, وكذلك من علامات الشكل؛ وهي الحركات والسكون. أما علامات الترقيم, فلم تعرفها اللغة العربيّة إلا في القرن التاسع عشر. لو كان أديبنا الذي نحن بصدد الحديث عنه, يعرف هذه المعلومة, لكسّر الشوك في أيدينا كما يُقال. أمّا الخطيب فقد كان لديه طرف علمٍ بها, ولذلك سنبدأ به, لنرى إلى أيّ حدٍّ بلغ به كِبْرُه, وتعاليه على أسس العلم وقوانينه. أحد المعلمين كان إمامًا وخطيبًا في أحد الجوامع, وكان إذا قام يخطب يوم الجمعة, رفع المنصوب وجرّ المرفوع, وكسّر قواعد النحو عن بكرة أبيها, وضرب بها عرض الحائط. وحين طلب إليه زملاؤه المعلمون مراعاة علامات الإعراب, كان وقتُ تقبُّلِه للملاحظة والنصيحة قد فات, وأصبح يرى نفسه فوق الجميع, فكان جوابه: “ الفتحة والضمة حقكم ما عرفتها العربيّة إلا أمس. الرسول صلى الله عليه وسلم ما عرف تنقيط الحروف, ولا هذا التشكيل اللي طالعين لنا فيه هذي الأيام”. وبدأ يتفلسف بكلام لو سمعه جاهل, لأيقن تمامًا أنه على صواب, وكافّة زملائه المعلمين على باطل. أمّا ما كان من خبر صاحبنا الأديب, فقد سكتَ أصدقاؤه وزملاؤه الأدباء عن تنبيهه لأخطائه, وفي علامات الترقيم بصفة خاصة, حتى بات يرى نفسه من الشخصيات المرموقة في الأدب والثقافة, وأصبح يطلُّ من علٍ, على كل من سينبري لنصحه أو انتقاده, رغم تفاقم مشكلته. ومشكلة هذا الأديب الأساسيّة, تتمثّل في اختصاره لعلامات الترقيم جميعها في علامة الاستفهام, فما أن يشرع في الكتابة, حتى تراه ينثر علامات الاستفهام على عباراته كيفما اتفق, خبط عشواء, يضعها موضع الفاصلة والنقطة والفاصلة المنقوطة وعلامة التعجب. يضع علامة الاستفهام في مواضع ليس فيها حتى رائحة الاستفهام, إن جاز لي التعبير برائحة. وحين أبدى له أحد المتخصّصين ملاحظته حول تعامله مع علامة الاستفهام, راح يطلُّ عليه من الأعلى كما أسلفتُ, بل وينكر عليه ملاحظته. لو أنّه قال كما قال الخطيب, إنه غير معنيّ بما أضافه المتأخرون, لهان الأمر, وإنّما, ولأنه يجهل هذه المعلومة, كان جوابه أكثر شناعة واستعلاءً, حين برّر فعله بأنّ هذا هو ما تعوّده, أو أصبح من عاداته التي لا يمكن التحوّل عنها إلى غيرها, قال ذلك بشيء من الفلسفة والتفلسف الغير مفهوم, كعادته حين يكتب. خلاصة القول.. لستُ ممّن يستهويه الظهور في جلباب الناصحين, وإنما في جلباب المعترفين بأخطائهم, فكلنا نخطئ في علامات الإعراب, وفي علامات الترقيم, إلا من رحم ربّي كما يُقال, وأنا أوّل الواقعين في مثل هذه الأخطاء, وربّما في مقالي هذا من حيث لا أشعر, لكن لا ينبغي أنْ تأخذني العِزّةُ بالإثم, وأثور في وجه من تجشّم عناء مكاشفتي بملاحظاته, “ رحم الله امرَأً أهدى إليَّ عيوبي”. هذا أولًا. أمّا ثانيًا, فحريٌّ بمثل هذا الأديب, وبمثل ذاك الخطيب, أن يعرفا تمام المعرفة, أنّ لكل عِلم قوانينه, وأنّه لا أحد فوق القانون. وطالما تصدّى هذا للأدب, وتصدّى ذاك للخَطَابة, فهما غير معذورين بعدم تخصصهما في اللغة العربيّة.