سيرة معالي الدكتور عبدالله النعيم وشهادتي على بعض مراحل عصرها (*)
قرأت بنهم شديد سيرة معالي الدكتور عبدالله العلي النعيم المعنونة: “بتوقيعي – حكايات من بقايا السيرة” في طبعتها الأولى, ثم قرأتها في طبعتها الثانية التي جاءت مصدّرة بمقدّمة رصينة بقلم سعادة الأديب الأريب والكاتب المبدع الدكتور إبراهيم بن عبدالرحمن التركي التي هي على قِصَرِها اختزلت معظم مضامين السيرة على كثرتها. وهي – أي سيرة النعيم - نصّ أدبيّ جميل, صيغ بلغة سليمة وسهلة, وبأسلوب علميّ سلس من نوع السهل الممتنع الذي يميز كتابات معدّها معالي الدكتور عبدالله النعيم وأحاديثه حتى لَكَأَنّك حينما تقرؤها تستمع إليه, وهو يتحدّث إليك بصوته الحادّ, وفروسيّته المعهودة, ولعله حينما صاغها صاغها وهو يكتب بصوت عالٍ ممليًا إيّاها على نفسه. وهي في الوقت ذاته سجلّ تاريخيّ لمرحلة مهمّة من مجتمع عنيزة مسقط رأسه, وبواكير التعليم فيها, ورجالاته الذين اضطلعوا به, وتؤرّخ كذلك لمرحلة مهمّة من بواكير نهضة الرياض الحديثة المتزامنة مع الطفرة الأولى التي أعقبت وفاة الملك فيصل رحمه الله, وما شهدته الرياض في تلك الحقبة من تسارع الحياة والعمران فيها, وبالجملة, فهي قصّة نجاح تُحتذى, وقدوة لمن اقتدي من أبناء الوطن وبناته الذين أهداهم هذه السّيرة “من التأسيس إلى المأسسة تقديرًا وامتنانًا”. وتدور سيرة معالي الدكتور عبدالله النعيم في مضامينها حول النشأة الأولى لمعدّها أو موقّعها في بلده, ومسقط رأسه عنيزة, ودراسته الأوليّة فيها, وسَيْرِه على خُطى والده في ممارسة تجارة التجزئة في عنيزة, ثم الإتجار إلى مكة والرياض, وسَفَرِهِ, وهو يافع, إلى المنطقة الشرقية ليعمل بها في محطّة بنزين, ثم مع الشيخ سليمان العليان في تمديدات خطوط التابلاين, وعودته إلى مدينته عنيزة, وزواجه من المرأة الصالحة أم علي رحمها الله, وعمله معلمًا في عنيزة, وانتقاله أو نقله إلى جدة ليعمل في مدارس الثغر النموذجي بها, ثم انتقاله إلى الرياض ليعمل مديرًا لمعهد المعلمين بها, وتدرّجه في سلك التعليم بما اكتسبه من مهارات وخبرات إدارية وتربوية أهّلته إلى أن وصل إلى منصب مدير عام تعليم نجد, ولمّا يحمل من المؤهلات سوى شهادة السنة الخامسة الابتدائي. وفي خطوة جريئة وطموحة منه لبناء قدراته ومؤهلات العلمية, وشغفه بالعلم استطاع الحصول بالانتساب على ثانوية المعهد العلمي السعودي بنجاح أهّله إلى الالتحاق بجامعة الرياض (الملك سعود حاليًّا) ليتخرّج منها من قسم التاريخ بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف الأولى, فعمل بالجامعة أمينًا عامًا مساعدًا, ومحاضرًا في بعض مواد التاريخ في القسم الذي تخرج منه, ثم أوفد إلي بريطانيا لدراسة الدكتوراه في جامعة كمبردج, وفي الوقت نفسه ممثلًا للجامعات السعودية في إنجلترا ضمن مكتب الملحق التعليمي في بريطانيا. وبعد أن أنهى 90% من متطلبات الدكتوراه, وبعد أن كان قاب قوسين أو أدني من الحصول على الدرجة في التاريخ الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية, وصلة استدعاء له بالعودة إلى جامعته لحاجتها إليه, وذلك بقرار من مديرها الذي كان في ذلك الوقت معالي الدكتور عبدالعزيز الفدا الذي يورد صاحب السيرة اسمه متبوعًا بقوله: (سامحه الله) على جري عادته في تسامحه مع كل من كان له معه موقف غير سار, فأذعن للأمر, وعاد إلى المملكة ليدخل في مرحلة جديدة من المهام العظام, والمسؤوليات الجسام التي تصدّى لها بحكمة واقتدار, وجدّ واجتهاد مكّنه من التغلب عليها بنجاح يُحسب له, ويحفظه له التاريخ في صفحاته الخالدة, وغدا نجاحه في التصدّي لمشكلات شركة الغاز التي أسندت إليه إدارتها في عام 1974م حديث المجالس, وأذكر وأنا شاهد على العصر أنني سمعت أساتذتي في جامعة الملك سعود, وعلى رأسهم زميله في جامعة كمبردج أ.د. عبدالله عقيل عنقاوي (رحمه الله) يقولون أن ميزة أبي عليّ أنه ينزل إلى الشارع, ويخالط العاملين, ويكسب ودّهم, وثقتهم, ويشحذ همهم وعزائمهم, ويستثير نشاطهم, ويجدّ ويجتهد, ويتابع بنفسه, ويسلك كل سبيل مشروع للنجاح في مهامه. وما كنت أعرف معاليه شخصيًّا في ذلك الزمن, لكن من يقرأ هذه السيرة, ويتابع معالجاته الحكيمة لمشكلات الغاز يدرك صدق شهادات أولئك الأساتذة الكبار في حق معاليه, فالذي يذهب إلى محطة الشركة, ويتفقد المكان, ويعالج أوضاع الصَّبَّة المتهالكة كما يصفها, ويجلس مع العمال, ويتغدّى معهم, ويذهب إلى مدينة جدة, ويفعل الشئ نفسه, ويقنع ملاك شركات غاز أهلية خاصة بالاندماج مع الشركة الأم, وتحويل حقوقهم إلى أسهم, والذي يتغلّب على مشكلات النقل بالاستعانة بسيارات الجيش, والذي يُبْحِر بشركة خاسرة إلى برّ الأمان, جدير بتلك الشهادة من معاصريه, وجدير بقول الأمير ماجد بن عبدالعزيز (رحمه الله) له حينما قابله ليطلب منه تخصيص أرض في مدينة الدمام لإقامة محطة عليها, قال له الأمير ماجد, وهو يضحك: “اطلب ما تشاء “فَلَنَا فيك حاجة”, وقول الملك فهد رحمه الله له: “أنت نجحت في الغاز, ونحن أمام مشكلة في الأمانة (أمانة مدينة الرياض), ونحتاج إلى شخص شجاع مثلك” وهكذا كان ثمن نجاحه في شركة الغاز تعيينه أمينًا عامًا لمدينة الرياض. وتصف سيرة النعيم حال مدينة الرياض عشيّة تعيينه أمينًا عامًا لها بما نصّه: “كانت الرياض (وكبار السن يعرفون ذلك) في وضع لا تُحسد عليه, القمامة تملأ كل مكان, ومكتب الأمين العام على مجري البطحاء المكشوف, والمليء بالقاذورات والأوساخ ومياه المجاري ذات الرائحة العَفِنَة... وكان الناس يحرقون قمائمهم (جمع قمامة) في كل مكان”, وهكذا نلحظ في هذا النص استعانة معاليه بكبار السن ليشهدوا على تلك الحالة التي كانت عليها الرياض, ولم أكن شخصيًّا – حنيذاك - من كبار السن الذين عناهم معالي الدكتور عبدالله النعيم, وإنما كنت شاهدًا عيانًا على تلك الحقبة, فقد كنت أعمل معلمًا في مدرسة ابن تيمية الابتدائية المطلّة على نفق شارع البطحاء من الشرق, في مقابل مواقف الخرج للسيارات في زمانها, وأسكن في عمارة الخرجي أو الخريجي المطلّة على النفق نفسه من الغرب. وكانت الروائح المنبعثة من ذلك النفق تزكم الأنوف, وكان الناس في غدوّهم ورواحهم عبر ذلك الشارع يضعون غترهم على أنوفهم اتقاءً لما ينبعث منه من روائح كريهة, وما ارتاحوا إلا بعد تغطيته في زمن قياسي, وهو الزمن نفسه الذي تغيّر فيه وجه مدينة الرياض من مدينة شوارعها قذرة إلى مدينة عصريّة نظيفة مستعينًا في بداية الأمر بعدد من التجار والمقاولين المحليين, ثم بشركة متخصّصة حتى أصبحت شوارع الرياض مثل الزِّعَيْري (ذكور الجراد) على حَدّ إجابته لإحدى المتصلات التي تسأل عن عمال النظافة, ويقصد بهم العمال المُسْتَقْدَمِيْن من الباكستان الذين كانوا يرتدون زيًّا أصفر حين ممارستهم لعملهم. وقد شَهِدَتْ تلك الحقبة التي أمضاها معالي الدكتور عبدالله النعيم أمينًا عامًا لمدينة الرياض طفرة في اتساع عمرانها, وضبط طوابق ما كان منه على الشوارع الرئيسية والشوارع الداخلية, ونجح في نظافة شوارعها, وسفلتتها, وتشجيرها, وتزويدها بحدائق عامة, بعضها كانت مزارع خاصة نُزعت ملكيتها لهذا الغرض, واتسعت المدينة بما أضافه إليها من منح ذوي الدخل المحدود التي نافت على 30 ألف منحة سكنية, ولعلها من أكبر المنح التي شهدتها المدن السعودية في تاريخها. ولقد كان من عوامل نجاحه حضوره الفاعل في ميدان العمل بدلاً من الجلوس تحت التكييف على مقعده الوثير بالأمانة, ومتابعته ومراجعته بنفسه لمختلف الجهات الحكومية ذات الصلة, وعمل على فتح فروع للأمانة في عدد من أحياء المدينة, وإنشاء مكتب تنسيقي للمشروعات يجتمع فيه كل أسبوع مع ممثلي الجهات ذات العلاقة, ونجح في بَثّ روح الحماس في العاملين معه من كبار المهندسين وصغارهم الذين حوّلهم إلى شعلة نشاط بتخويلهم بعض صلاحياته, وكان يقول: “أن تعمل وتخطئ, خيرًا مما لا تعمل”. ومما ساعده على نجاحه دعم الملك سلمان الذي كان (حفظه الله) أميرًا للرياض حينذاك, والذي كان اسمه حاضرًا بقوة في أماكن متعددة من السيرة مصحوبًا بالشكر والثناء العاطر من كاتب السيرة, وهو أهل لذلك, وكذلك إشراكه بعض الجهات الحكومية ذات العلاقة, ومنها وزارة المواصلات في عهد وكيلها ثم وزيرها ناصر السلوم – فيما بعد - الذي عبّر له عن شكره وامتنانه في ثنايا السيرة على دوره في نقل مشروع الخط الدائري في الرياض إلى وزارة المواصلات (النقل حاليًّا) بوصفها أكثر تخصّصًا في تنفيذ هذا النوع من المشروعات. ولم يبخل معالي الدكتور عبدالله النعيم في إسداء الشكر والامتنان إلى العشرات من المسؤولين الذين أعانوه, ووقفوا معه, وساعدوه في تحقيق نجاحاته, وهم كثر مما لا يتسع المجال لذكرهم. على أن أهم ما يلفت النظر في هذه السيرة استقالة صاحبها, وهو في عزّ نشاطه وقمة عطائه, وتألقّه ونجاحه فيما أوكل إليه على خلاف كثير من المسؤولين الذين يتشبثون بمناصبهم حتى الموت أو العزل, ولم يكن الملك فهد راضيًّا عن تلك الاستقالة, ولكن أمام إصراره على طلب إعفائه كتب كل من الملك سلمان الذي كان – حينذاك- أميرًا للرياض, والأستاذ إبراهيم العنقري بوصفه وزيرًا للشؤون البلدية والقروبة إلى الملك فهد رحمه الله مبرّرين في كتاباتهم أسباب طلبه الإعفاء, فوافق الملك فهد شريطة أن يبقي معالي د. النعيم في معترك الأعمال, واللجان التي كان عضوًا فيها حينما كان أمينًا عامًا لمدينة الرياض. ولئن كان معالي الدكتور عبدالله النعيم قد تحلّل من العمل الرسمي في الدولة, فإنه ابتدأ مرحلة جديدة من العمل غير الرسمي, والعمل التطوّعي مبتدئًا إياهما بالتطوّع في أزمة الكويت, وتولّي كل ما يتعلق بأمور استقبالهم وإيوائهم, ودوره في تأسيس مكتبة الملك فهد الوطنية, وترؤّسه لمجلس أمنائها, وترؤّسه لمجلس أمناء المعهد العربي لإنماء المدن, فأمين المدن العربية, وترؤّسه للمعهد حتى استقالته بعد خدمة في المعهد دامت واحدًا وأربعين عامًا, ودوره في معرض المملكة بين الأمس واليوم, ودوره في تأسيس مركز الملك سلمان الاجتماعي, وانتخابه رئيسًا لمجلس إدارته, وتضمّنت السيرة مناشط أخرى, منها تسليط الأضواء على كتاباته, ومقابلاته الصحفية, ومحاضراته في الجامعات, وبعض الصوالين الأدبية التي كنت شاهدًا على بعضها, ومنها محاضرته أو مداخلته القيّمة في ندوة الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله, والمعرض المصاحب لها, تلك الندوة التي رعاها وافتتحها الملك سلمان حفظه الله, وكان معه على المنصّة مسؤولون آخرون ممن عاصروا الملك, وعملوا معه, ولعل من حضر تلك الأمسية من أمثالي يشهدون بالأداء الرائع الذي أدّاه معالي الدكتور عبدالله النعيم ارتجالاً بحيث شدّ انتباه الحاضرين, وحاز على إعجابهم, ولم يكن معه في يده ما يقرأ منه باستثناء قصاصة فيها رؤوس أقلام بحسب ما نصّت عليه السيرة, وما شاهدته عيانًا. أفرد معالي الدكتور عبدالله النعيم في سيرته حيّزًا لمشروعات بناته الخيريّة في مسقط رأسه بعنيزة, وهي أعمال برّ يشكرون عليها, ويؤجرون إن شاء الله, ولم يذكر معاليه شيئًا عن الجائزة التي تحمل اسمه, ربما تواضعًا منه باستثناء خبر بسيط لإحدى مناسبات توزيعها على الفائزين بها. وبوصفي أمينًا لهذه الجائزة أرى من المناسب أن أذكر نبذة بسيطة عنها, وعن تأسيسها, ذلك أن المرحومة – بإذن الله - ابنته الدكتورة نورة النعيم طلبت إليّ أصالة عن نفسها, ونيابة عن أخيها وأخواتها تأسيس جائزتين علميتين باسم والدهم؛ إحداهما يُطلق عليها: جائزة الدكتور عبدالله العلي النعيم لخدمة تاريخ الجزيرة العربية وآثارها, وهذه نشأت في جمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي تتّخذ من دارة الملك عبدالعزيز بالرياض مقراً لها, والتي أشرف بأنني أمين عام لها منذ أكثر من 25 عامًا, والثانية باسم جائزة معالي الدكتور عبدالله العلي النعيم لخدمة تاريخ الوطن العربي وحضارته, وهذه أنشأناها في اتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة, وهما جائزتان سنويتان تُمنح كل عام لأربعة من الباحثين على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي, وأربعة آخرين على مستوى الوطن العربي, والجائزتان من الجوائز المهمّة في الوطن العربي, وقد مرّ حتى الآن على إنشاء كل منهما سبع سنوات, وهي تسهم في تقدّم المعرفة الإنسانية بتاريخنا وتراثنا الإسلامي والعربي, ولها سمعة طيّبة, وتحظي باهتمام المؤرخين والآثاريين على حدّ سواء, ويتقدّم إليها كثير من الباحثين كل عام عربًا وعجمًا. والخلاصة أن الحديث عن سيرة معالي الدكتور على النعيم حديث لا ينتهي؛ فهي صورة حيّه لعصاميّة رجل عمل في التعليم, وتدرّج في سلكه حتى تولى منصبًا قياديًّا في التعليم العام بمؤهل لا يتجاوز السنة الخامسة الابتدائية, وعالج أعضل المشكلات المزمنة في جهازين حيويّين مهمين في الرياض العاصمة في وقت قياسي, هما: شركة الغاز الوطنية, وأمانة مدينة الرياض, وعمل في كل ميدان من ميادين التطوّع والعمل العام, ولم يغفل أو يغمط حقّ كل من مدّ له يد العون والمساعدة, أو عمل معه صغيرًا كان أم كبيرًا, وكان صادقًا وصريحًا ومتسامحًا في كل ما كتب. نسأل الله له الرحمة والمغفرة والفردوس الأعلى من الجنة, وأن يجعل ما قدمه للوطن والمواطنين وللإنسانية جمعًا في موازين أعماله. ------- (*) هذه المقالة كتبتها في حياته رحمه الله, وغفر له, وأسكنه فسيح الجنان, ولم أنشرها في حينها, ورأيت من المناسب نشرها الآن بعد مماته, فلعلّها مما سيُذكر له من جليل الأعمال التي قدّمها في حياته المليئة بالمآثر التي سيسجّلها له التاريخ في صحائفه الخالدة “والذِّكْرُ للإنسانِ عُمْرٌ ثَانٍ”.