بلاغة الابتكار

هل بالإمكان إيجاد صلة قرابة بين عالم الألفاظ وعوالم المادة والأعمال؟ بعد كتابين طوّف فيهما على عوالم اللغات، يقدم لنا أستاذ اللغة العربية والصينية الدكتور بلال عبدالهادي كتابه الثالث بعنوان “من الصفر”، ساردًا فيها قصص أشخاص ارتقوا سلم النجاح من أوله، وصعدوا بأحلامهم وأيديهم مراتب عالية، وكتبوا أسماءهم في متن التاريخ. دخل بلال بهو الريادة والابتكار من باب اللغة وآدابها، وأضاء لنا في أكثر من خمسين مقالة قصيرة عوالم الإبداع والابتكار وريادة الأعمال، وناقش فيها استراتيجيات التجارة وأدبيات الريادة على ضوء نظريات اللغة وأفكار البلاغة. يمتلك بلال لغته الخاصة وخلطته الفريدة، فاطلاعه الواسع على آداب العالم وتنوع التخصصات الملهمة له جعل من مقالاته مادة ممتعة وثرية، فمن طرائق التسمية في اللغات إلى طرائق ابتكار زجاج الهواتف الذكية، ومن أنواع السرقات الأدبية يدلنا على مفاتيح ابتكار الأفكار الريادية، ويمد الكثير من الجسور بين الأمثال الشعبية والمشاريع التجارية. تحضر “الأحلام” بشكل كبير في الكتاب، وكأنه جاء بعد تحقيق بلال لأحلامه أو تحفيزًا له على ذلك، فمنذ صفحاته الأولى يؤكد على أن الظروف قد تحرمك من المعرفة والدراسة، ولكن ليس بمقدور أي ظرف حرمانك من الأحلام، فالأحلام غير قابلة للسرقة، تخسر أحلامك فقط حين تتبرع بها للآخرين، أو حين تسأم منها فترميها بعيدًا، فالأحلام لا تخذل أحدًا. قليلة هي كتب الابتكار في المكتبة العربية، وعلى قلتها تتكرر الأفكار فيما بينها كما تتكرر القصص والشواهد، فجاء هذا الكتاب ليقدم لنا رؤى مختلفة في الابتكار وأخبار جديدة وحكايا مهملة، ليؤكد أن الابتكار يأتي أحيانًا على هيئة تحويل الهامش إلى متن. الأفكار الجديدة هي نتاج إعادة التدوير، كما يقول، كما أن النظرة إلى الأشياء تُغيّر الأشياء، وهو ما يبرع فيه بلال من خلال تقليب معاني الأشعار لتصبح قواعد للتجار، ويلتقط ممارسات علماء اللغة والبلاغيين ليضعها بين أيدي رواد الأعمال والمبتكرين، فالبلاغة، كما يراها، ليست بلاغة ألفاظ فقط، بل بلوغ أهداف. هذا الكتاب يظهر لنا رائد الأعمال بلال بعد أن تعرفنا عليه خبيرًا في اللغات في “لعنة بابل” و”الكتابة على جلدة الرأس”، كما تظهر آثار إدارة بلال لمطعم العائلة الشهير في طرابلس في صبغ الكتاب بأفكار الطبخ والتذوق، ومن ذلك تشبيهه الأحلام بطبخة على النار، ستحترق إذا استعجلت إنضاجها، فاللعب بالنار يتطلب صبرًا ومهارة. الشغف بالمعرفة والحياة يصل إلى القارئ في كل سطر من سطور الكتاب، والنهم بالاطلاع والمتعة بالكتب التي عاش بها بلال حياته ستصل حتمًا لقارئ كتابه.