في ديوان (مزدحم بالفراغ) لعلي مكي الشيخ..

رمزية الفراغ وتأويلاته المفتوحة.

في إصداره السابع (مزدحم بالفراغ) يقدم علي الشيخ 79 قصيدة بينها 3 نصوص تفعيلية، والبقية من عمود الشعر . يبدأ ديوانه بالتضاد والمفارقة من خلال عنوان يجمع بين الكثافة في (الازدحام ) باللاشيء (الفراغ ) لتشكيل دلالة خاصة حول الكتاب تقترح تصوّراً أوّلِياً حول محتواه بدءاً من هذه الصورة المتناقضة، ولو أنّه أراد بذلك لوناً واحدا من الفراغ لاكتفى بمفردة ال(فراغ) إلا أن كلمة مزدحِم تشير إلى غير هذا المعنى، فالفراغ في كونه فراغاً لا يقبل فكرة الازدحام. وعلى صعيدٍ آخر بعبارة (المجاز ثالثنا) في إهداء الكتاب يشد انتباه المتلقي حين يجعل منه فكرة ومن المؤلف مسافة ليكون المجاز بينهم طرفاً ثالثاً . ورغم تعدد مواضيع النصوص إلا أنّها تحلّق في فضاء الذاتية، فمواضيعها تتمحور حول هموم هذه الذات الشاعرة حيناً والعاشقة حيناً والذائبة في القرآن أحياناً أخرى ، وهي بذلك تمنح الديوان سمة خاصة إذْ تكوّن سلسلةً من الدلالات تشترك فيما بينها لتقدّم الديوان كبناءٍ فنّيٍّ متناسق . حين نقرأ في نصه (فصلت أعضائي) قوله: (وأناي وهمُ أنايَ حين أزورني فأنا كثيرٌ بالقليلِ من العدد ).. نرى تأملاً عميقاً لهذه الذات بشكلٍ سمح للشاعر أن يرسم هذه المعادلة الغريبة التي تتعدد بخا الذوات، ويبتكر رابطا خاصا بين الكثرة والقلة في معاييره لهذه للذوات، وفي ذلك إيحاء بأن القرب والتعمق نحو الذات من عوامل تشظّياتها . لكنّك لن تقبض على المعنى بشكل حتمي فهي لغة تتشبّث بالغموض، وتبحر بالفلسفة . معظم النصوص تؤكّد على نظرةٍ مرهفة وشعرية متوقّدة، تجسّد لنا ملمح الاغتراب الشديد حيث يمتدّ بالمتلقّي شعوره بالالتباس، وببقائه بعيداً عن كوكب الشاعر مهما توصّل إليه من فهم، ولنتلمس شيئا من ذلك، أي من ترفّع الشاعر عن أفق المتلقي بشيء من الانغلاق. لنتأمل تراكيبه في هذه الأبيات : - في نص أخيراً سأكذب (سأكذب إن قلت لا تكذبوا ) وقوله في نص( قالت منك واعجبي) : أموت لكنني أنسى الهواء معي فأشرب الوجع المنقوع بالتعبِ وفي النص ذاته: (لايضحك الشك إلا حين نزرعه فوق الشفاه بإيقاعين من طرب آمنت بالذنب مرآةً تطهرنا بالذنب تؤمن قالت : منك واعجبي ) كما أن الكثير من نصوصه ذات خطاب فلسفي متلائمٌ مع تغلّب طابع الغموض على لغته الشعرية، يقول في نصّه (ظلك لايشبهك ): (إذا كان ظلّك لا يشبهك فأنت الذي أنت لا يملؤك ! ) وفيه دعوة مبطنة للتأمل في الأعماق، إذ يثير التساؤلات حولها . وفيما يليه من الأبيات إشارات عميقة تحمل إيحاءات متعلّقة بأهمية الاقتراب من الذات، والبدء دائما من خلالها، ونجد أنه يعود لثيمته ( الفراغ )بهذا النص فيقول: (وكيف استعرتَ مرايا الفراغ ونِصفُك عن نصفِهِ يُنبِئُك ) والنص رغم اتخاذه طابعا فلسفيا إلا أنه يعود في نهايته إلى الشعر والمجاز ويعكس الارتباط العميق بينها في رؤية الشاعر، فيقول : (إذا كنتَ لم تقرأ المعجزات ملائكةُ الشعرِ لاتقرؤك) لغة الفراغ : لغة تلميحية، تبدأ بالمجاز وتنتهي فيه، وتتكيء على الرمز والاستعارة لتعزز أغراضها بالتضاد والتناص مع الرموز القرانية وغيرها، تبتعد عن السطحية عبر قيامها على الانزياحات، وربما تميل إلى التعقيد في معظمها، ففي مواقع كثيرة من الديوان كان الشعر بمجازاته واستعاراته ووحيه وتنبؤاته ورمزياته موضوعاً للشعر، فيضع البوح والمجاز مقابل الحياة في نفخ الروح، يقول في نص ( من روحه نفخا ) : (رأيتُ قال فمي : هلكان من أحد ! قالوا نبي هنا من روحه نفَخا) وفي بيت آخر من النص ذاته : (أقيس حجم ارتباكي كي أُبادله طعم المجاز وكم كان المجازُ أخا ) وأيضا في نص: (ليعصمني بالمجاز ) يمتزج رمز المقدس برموز الكتابة ومما جاء فيه : سآوي إلى جبل خادع ليعصمني بالمجاز انزياح -مواضيع الفراغ : من المفارقات التي قد يجدها القاريء عند التأمل في المجوعة أن هذا الفراغ ثيمة بارزة فيها وقد استثمرها الشاعر جيدا من خلال توظيفات تتّخذ قوالب عدة، استناداً على تعدّدية التأويل للفراغ كقضية وجودية ، وقد تكررت مفردة الفراغ في مواضع عديدة من الكتاب فوظّفها بأشكال مختلفة تأخذ مناسبتها من السياق الذي ترد فيه ليربط الفراغ في كل مرة بفكرة مختلفة وهنا عدد من الأبيات التي توضّح ذلك : في نص (لتصطاد وحيا ً) : (على أن تكون الآن كالآن فارغاً من العدمِ الآتي إليك انكسارهُ ) وفي نص ( طعم خيبتها ) يقول : (وعدت أرتب اللاشيء قبل فراغ ماقد كان أزرًر فكرة الألواح كي أنجو من الطوفان) او قوله : (أرني فراغ الظل ) نرى معانٍ تشف عن نظرة وجودية عميقة تحمل بعدا فلسفياً فهو لا يتورّع عن استخدام مصطلحات (كاللازمان واللامكان، المستحيل، العدم، اللاوجود، الغيب،الوحي وغفلته، الظل وخلفه ) بكثرة لخلق هذه الهالة الضبابية والتي تكسب الشعر انفتاحاً أفقيا ليتسع لأشكال غير محدودة من التأويل : وهو رغم إيغاله في الرمزيه إلا انه يحمل مقترحات وجدانية عميقة كالتبتّل لاصطياد الوحي، والإسراف للحب، كما أنه وظّف الرموز القرآنية توظيفا يغلبُ على معظم القصائد مستدْعياً هدهد سليمان وعرش بلقيس وبئر يوسف وطور موسى وماء الخضر وغيرها من الرموز بشكل يغلب على نصوصه لحد يتماهى بلغة القرآن تماهياً عميقاً، وإذا أشرنا لقصة يوسف كمثال على استعاراته فالشواهد بالغة الكثرة، إلا أنه في كل مرّة يوظّف رموزها بشكل مختلف : يقول في قصيدة (ثنائي (أخبيءحنطتي سهواً /وعمْداً لأنّ صواع ملككِ في اشتهاءِ ) وخلف توظيف هذه الرموز بشكلٍ متكرر لغةٌ تميل لمشاركة المتلقي في رسم المعنى حيثُ تتّكيء على صورٍ مسبقة في ذهنه إلا أنها تعيد تشكيلها في سياقات جديدة . وهو أحياناً يوظّف رموزاً أدبية عربية قديمة مثل ( الخمار الأسود) و( برقة ثهمدِ ) في نص (ملامح) مستعينا بدلالاتها الواضحة في المخيلة لتشكيل هذه الملامح، وأيضا(امرؤ القيس) و(قفا نبك) و( أم الرباب ) في نص ( من خارج الفلك ) أو رموزاً حديثة وأسمـاء ك( نزار ) و( جاسم الصحيح ) أيضاً يبتكر دلالات خاصة من علاقته بأرضهحين يذكر (القطيف) و(دارين)، و(الخط) في نصوص أخرى موظفاً كلاً من هذه الرموز بأساليب عدة . وفي قصيدة (هي لي انا) شاهدٌ على بعض تقنّياته الفنّيه اللغوية حيث يكثر من تدوير المعنى، ورد أعجاز الأبيات لصدورها، واستخدام التّضاد، والتكرار لخلق الصورة ومايلي جزء منها : يتكاثر الملكوت عند حيائها بحيائها يتعبّد الأحياءُ خُلِقت أنوثتها كما شاء الهوى فلكل آدم فتنةٌ حواءُ في نص (عليه السلام ) تتوهّج ذات الشاعرِ معرِبةً عن مكنونها تجاه هذا المقدّس ( الشعر ) الذي يقول فيه، (لإن قلتُ إني نبيّ القُرى أتوب إلى الشعر مُستغفِرا سلامٌ على من رأى فكرتي وزاد قليلاً على ما أرى سلامٌ عليه إذا جاءني كثيراً وقد جئتهُ أكثرا ) والإبهام الذي يسود جوّ هذا النص ويدور في فلك الوحي والشعر والنبؤة، ويشرعُ أبواب التأويل يمنحه كاريزما خاصة، لكنها تصبّ في الذاتيّة كبؤرةٍ لموضوع النص . ومن الصوَر الملْفِتة في الديوان والتي تعدّ شاهداً على تماهي روح الشاعر بالبوح والكتابة كروح توأم يقول في أحد الأبيات من نص (كيف أغادرك ) : وسقطت سهوا من رواية حبرنا وهو يمزج الفلسفه بالشعر في كثير من الأبيات منها في النص ذاته قوله : (هو أنت حين تريده متوحدا في العشق توحيد الهوى يتكاثرُك) في احد ابيات تناص مع لغته الشعرية التي في الديوان يقول في نص هوامش العدم : (واكتب هوامش نسخة ممسوسة تمحو من العدم الكلام لتبقى ) ويتطرق للحب كأفضل ما يملأ هذه الفراغات في نص (شيء لاتراه ) وبشيء من الفلسفة الشعرية يقارب بين الحب والفلسفة بتعبير عميق في قوله : (الحب شيء لاتراه ويُعربكْ ) إلا أنّ لغته لاتبتعد عن المصطلح القرآني حتى في نطاقِ الغزل، كاستخدامه لثنائية الضلال والهدى في نص كي أتمردا حين يقول : تمرين فوق النبض حد ارتباكه فياليته قد ضل فيك وما اهتدى إشراقةٌ تنحاز إلى الغموض في ديوان يستحق التأمل والدراسة.