مثقف التنوير.. ولواء التغيير.

ما من شكٍّ, في أنّ للثقافة, كما للفنون, دورًا أو رسالة تؤدّيها تجاه مجتمعاتها, وأنّ تأثيرها فيها لا يقف عند حدود الامتاع, لكن على المثقف, وأعني هنا مثقفًا بعينه سأحدّده لاحقًا, أن لا يستنكف أو يندهش بعد اليوم, إذا ما استيقظ من نومه, ووجد أنّ مجتمعه يشهد تحولاتٍ قد تجاوزته بسنواتٍ ضوئيّة, وهو ما يزال, وعلى مدى نصف قرن, يتوهّم التنوير وقيادة التغيير, غارقًا في طوباويّة تنظيراته الثقافيّة, وأوهامه الدنكشوتيّة. ولا أعني بالتحوّلات هنا مفاجآت الذكاء الاصطناعي, التي بات من المتعذّر اللحاق بها وحصرها. إنّما أعني تلك الانعطافات التاريخيّة الحادّة, التي حدثتْ مؤخرًا في الشام, وحدثتْ بسرعةٍ دراماتيكية مذهلة, حيّرتْ كافّة المراقبين والمتابعين لها, فضلًا عن مثقفي اليسار والقومية والبعث والمقاومة, من حاملي لواء التغيير, الذين وجدوا أنفسهم وحيدين, يقفون مع لوائهم على قارعة الطريق إلى التغيير. في الماضي, كان المثقف عندنا, يعيش لحظة انتشاء تاريخيّ, كلّما هبّتْ عليه رياح الثقافة من الشام, يوم كان الشام من أهم وأبرز مراكز الإشعاع الثقافي في الوطن العربي, حيث وُجِدتْ أقدم مطابع الكتب وأكثرها شهرة, حتى قِيل “ مصر تكتب ولبنان تطبع والعراق يقرأ”. الشام الذي وصلتنا منه الحداثة, وكتب اليمين واليسار على حدٍّ سواء, وسلسلة مركز دراسات الوحدة العربية, ومن الشام عرفنا المسرح الطليعي, على يدي الماغوط وسعد الله ونّوس. وهو الشام الذي تأسستْ فيه ذات يومٍ, في الماضي القريب, صحيفة حمل المانشيت الخاص بتأسيسها عبارة تقول: “ يا صعاليك العالم اتحدوا”. ومن يومها تراجعت خطابات التنوير, وحلّتْ محلّها خطابات التقدميّة والقوميّة والبعث والمقاومة, خطابات كلها عنتريات وعِزّةً قعساء, لا همّ لها سوى وصمنا بالتّخلّف, إلى أن شاهدنا الفصل الأخير منها, على وجوه الخارجين من سجن صيدنايا السيّئ السمعة, ومصانع الكبتاجون. بالعودة لدور المثقف, سيظلّ السؤال عنه قائمًا, وستظلّ الإجابة عنه خاضعة للمناخ الثقافي السائد, أو الموجات الأدبيّة والفكريّة, سواء القادمة إلينا من الغرب, أو تلك القادمة من محيطنا العربي؛ ومعظم رياح الثقافة العربيّة إنّما كانت تهبُّ علينا, كما أسلفتُ من الشام, وكانت تأتي متحاملة على خليجنا النفطي البدوي العشائري, وقل ما شئت من الأسماء والصّفات. ذلك أنّها ثقافة, لم يعجبها ذلك الصمود الأسطوري لخليجنا العربي, في وجه ثورات الخريف العربي, الذي عبث بجمهوريات, وأسقط أخرى. رياح الثقافة تلك, كانت تهبّت علينا مشبّعة بالدعوة للحريّة, ومناهضة الاستبداد والتصدّي للاستعمار, بينما هي خاضعة لمستعمرها الجديد, المتباهي علنًا بضمّ عواصمهم, ولا تناهض أحدًا سوى بداوتنا. وتدعو للديمقراطيّة والتعددية في تداول السلطة, وهي لا تسعى إلا للوصول إلى الحكم, ولا فرق بينها وبين جماعات الإسلام السياسي, سوى أنّ هذه الجماعات تحاول الدخول من بوّابة الجامع, بينما أولئك المنظّرون يحاولون الدخول من بوّابة الثقافة. أمّا الخطابات المتعلقة بدور المثقف حيال أسئلة النهضة والمستقبل العربي, فالخوف كل الخوف أن تبقى أبد الدّهر, محض تنظيرات ثقافيّة, غارقةً في طوباويّةٍ هي أبعد ما تكون عن الواقع, وأنّها ستغرب عمّا قريبٍ, كما غربت شمس “ كأسك يا وطن” و “ شقائق النعمان”, وأغاني مارسيل خليفة ومحمود درويش, ومجلات كُثْر مثل مجلة الآداب لسهيل ادريس ومجلة شعر ليوسف الخال, وغيرها وغيرها. أخيرًا.. إذا كان دور المثقف في المجتمع, كما يراه تشومسكي, هو كشف أكاذيب السلطة وقول الحقيقة, فمن سيكشف أكاذيب المثقف الذي كان يستخفّ بنا, ويسعى للنّيل منّا؟ وفي أحسن الأحوال, من سيكشف طوباويته؟ سواء على مستوى التنظير, أو على مستوى السلوك.