اغتيالُ الأدب.

«كيف يمكن أن نحدد أزمة الأدب اليوم؟» سؤالٌ طرحه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في مقالة بعنوان «الوسطاء» عام 1985م، وترجمها عبد السلام بنعبد العالي وعادل حدجامي في كتابِ (خارج الفلسفة – نصوص مختارة لجيل دولوز)، حيث لاحظَ فيها أنَّ نمط «الدورة السريعة» أو «البيست سيلر» هو الرائج في الأوساط الفنية والإبداعية، إذ الأعمالُ التي يتمُّ إنتاجها يكُون موصى بها من «نادٍ ذائع الصيت» أو تكون قد حازت العديدَ من الجوائز، وهو ما يدفع الكثير من الكتَّاب إلى تقليدها. تجسِّد «مؤامرة المقلدين» أو نمط الدورة السريعة طابع الحياة الثقافيَّة المعاصرة، فالعديد من الناشرين باتوا يشتغلون على غرارِ «منتجي الأغاني»، الذين يبحثونَ عن الذَّوق السائد وما يطلبه المستمع؛ ما أوقع الكتَّاب في تقليد بعضهم البعض، متأثِّرين في ذلك بـ»البرامج التلفزية» التي تحدِّد لهم الأطر العامة للأدب الذي ينبغي عليهم كتابته، فـ»نظام الدورة السريعة ينتج، بالضرورة، إنتاجات تقعُ في أفق الانتظار، حينها يصير «الجريء» و»الصادم» وما يكون غريباً أدبيَّا، مقدوداً ومكيَّفاً بحسب قوالب السوق المعدة سلفاً». الكتَّاب غير الخاضعين للنمط لن يجدوا ناشرين لكتبهم، ما سيقود إلى حصرِ الكتابة ضمن أفقٍ معيَّن يظل يتكرَّر، ليفقدَ بذلك أهم «شروط الإبداع الأدبي، والتي لا يمكنُ أن تحيا وتتحقق إلا في إطار أفق غير منتظرٍ وبحسب دورة طويلة الأمد وانتشارٍ بطيء» وهذا ما يفتقدُه النمط الباحث عن الشهرة والانتشار السَّريع والصعود إلى القمة بتعجُّل، لذا تأتي النتائج كارثيَّة لأن دورة الأدب «هشة بطبعها»، وهو ما سيتسبَّب في إشكالية مستقبلية تتمثَّل في اختفاء الأصوات المختلفة والمتميزة إبداعيًّا. قد «نُسعد اليوم، بالتزايد الحاصل في العناوين كميًّا، وقد نُسَرُّ بارتفاع عدد الكتب والطبعات التي تصدر، لكن الكتاب الشباب سيجدون أنفسهم، قريباً، منذورين لأن يوضعوا في قوالب وأُطر ستمنعهم من أي إمكانية في الإبداع»، وستجعلهم مقلِّدين وليسوا مبدعين، «فالمقلدون سيقلدون بعضهم، وهذه هي العلة في التكاثر الذي نرى اليوم»، وهنا ستأتي النتيجةُ كما اكتشفها الأمريكي جاك لندون بـ»إننا لا ننتبه لغياب شخص لا نعرفه مسبقاً»، إذ هؤلاء الكتَّاب ستنطفئ في داخلهم جذوةُ الإبداع؛ بسبب تأطيرهم ووضعهم ضمن قوالبَ جاهزة ووصفات معدَّة لا يستطيعون مغادرتها، وهذا «ما حصل بالضبط في روسيا التي فقدت أدبها دون أن ينتبه أحدٌ لذلك». «يتحمل الصحافيون جزءاً من المسؤولية في أزمة الأدب»؛ لأنهم يقومون بتأليف الكُتب دون أن يبذلوا «أي مجهود خاص» من أجل إتقان فنون الكتابة، إذ حينما يتحوَّلون من الكتابة الصحفية إلى الكتابة الأدبية؛ يغدو عملهم «التسجيلي»، القائم على سردِ الحقائق والوقائع الشخصية أو الاجتماعية مسيطراً على الفضاء الثقافي، وهكذا «سيعتقد كل شخص، أمام الغير وأمام نفسه، أنه قادر على أن يكون كاتباً، حتى ولو لم يكن له من شيء ليقوله إلا إنه يملك عملاً أو إنه عاطل عنه»، لتكون الضحية «طبيعة الأدب نفسه»، التي هي شيء مختلفٌ عن كل ما يُكتب؛ لأنه لا «يكتفي برصد وتسجيل آثار الأفعال والمقاصد»، إنما يخلقها ويخلق عوالمها. يتحمَّل «السمعي البصري» كذلك جزءاً من المسؤولية، وبهذا فإنه يساهم في اغتيالِ الأدب وموته، حيث الكثيرونُ يعتقدون أنه «يحمل، في ذاته، نفس قدر إمكانيات الإبداع التي يحملها الإبداع الأدبي الذي يُحتضر، أو تحملها أشكال التعبير الأخرى»، وهذا الأمر «ليس صحيحاً بتاتاً، إذ لو كان السمعي البصري سيعوِّض الكتاب؛ فإن هذا الأمر لن يكون على أساس اعتبار السمعي البصري وسيلة تعبير منافسة للكتاب، بل على أساس اعتباره احتكاراً ستمارسه جهات السمعي البصري، وهو ما سينتهي بها إلى قتل إمكانيات الإبداع والخلق الممكنة في السمعي البصري نفسه». موتُ الأدب لن يتم بطريقة هادئة وسلسة، إنما بـ»عنف»، حتى وإن لم ينتبه أحدٌ لذلك، إذ سيتفاجؤون بخلوِّ الفضاء الثقافي من الأدباء المبدعين القادرين على خلق عوالمهم، والتَّعبير عن آرائهم وقضاياهم، بطرقٍ فنية مبتكرة، تتسم بالجرأة وإحداث الصَّدمة في المتلقي؛ ما يعيدُ السؤال عن مسار الإبداع إلى الواجهة؛ ليتضح «أن إمكانيات الإبداع هي من طبائع مختلفة جدًّا، تبعاً لنمط التعبير الذي تعتمده كل واحدة منهما، لكن الارتباط بينها أمر واقع». بات الإبداعُ في مأزق، إذ ثمة محاولات حثيثة لتأطيره ووضعه ضمن مقاييس محدَّدة، تسعى إلى «فرض فضاء ثقافي خاضع لسلطة السوق»؛ تسبَّب به المقلِّدون وكتَّاب الأعمدة الصحفية والمسؤولون عن إنتاج السمعي البصري، وللنجاة منه ينبغي «إنقاذ شروط» الإبداع الأدبي، التي بدونها «من المشكوك فيه جدًّا أن يستطيع السمعي البصري امتلاك شروط إبداع خاصة به»، ولأنهما مُرتبطان ببعضهما، ينبغي عليهما مواجهة «التواطؤ» الحاصل؛ حتى لا يؤدي ذلك إلى موت الأدب وتوقُّف الإبداع.