الحس العائلي عند الشاعر عبدالله بن إدريس.

الطابع العام الذي تتسم به أعمال الأديب السعودي عبدالله بن إدريس هو ارتباطه الوثيق بوطنه وأمته، فمن يقرأ قصائده سيكتشف عمق العلاقة التي تربطه بجذوره الأولى، فما ينفك متفاعلاً مع الأحداث التي تجري هنا وهناك، مما جعله ينتسب إلى الأدب الملتزم ضارباً لنا بما قدمه من نتاج أنموذجاً للشاعر المدافع عن دينه وتاريخه وأرضه ولغته، أي- باختصار - الهوية التي تكون من جميع عناصرها. لكن من بين هذه الصرامة التي انتهجها ثمة طيف رقيق في شعره، وهو الحس العائلي بما يمتلك من أبوة متواصلة وداعمة مما كان لها الأثر في بناء الإنسان. يشكل البيت محطة الطمأنينة والسكون وهاهو في لحظة يبدو وحيداً فيه يتأمل في كل ركن من أركانه فلا يجد لها معنى بغير أهله : أسرجت بيتي قنديلا فقنديلا وقلت : ياعين ما للنور قد نيلا ماعاد مندفقا بل عاد مرتعشا كأنما هو بعد الأهل قد عيلا وفي لحظة وجودية يتذكر داره القديمة التي ظلت مأهولة ٢٥ عاماً، وقد خصها بقصيدة ( يا دار ) التي ظل يناديها متأثراً بمشهد الجرافات التي أزالتها لكن بقيت آثارها وأطيافها مسكونة في وجدانه. وهي في المحصلة النهائية ليست جدراناً وسقوفاً بقدر ما تفيض بها المعنويات الأخلاقية : كانت حياتك ياداري منزهة عما يشين ولم تمسسك أوضارُ فكنت مرتبعا بل كنت منتجعا يفيء نحوك أحباب وزوارُ لقد بقيت بربع القرن شامخة بساكنيك فنعم الأهل والدارُ تتحول القصيدة عند ابن إدريس إلى ما يشبه دفتر العائلة، أو سجلاً تاريخياً خاصاً يرصد فيه علاقته مع أبنائه، وليس هدفه أن يذكرهم واحداً واحداً، لكنه يحاول تصويرهم مقدماً توصياته وتوجيهاته الأبوية التي اكتسبها مع مرور الأيام والسنين: أبنيَّ (سامي) لا عدمتك ساعدا للوالدين، وللأخوة مسعدا إني وأخوتك الكرام وأمكم لنبارك العزم القوي على المدى (عبدالعزيز) تأودت أغصانه فرحا، و(إدريس) البشاشة جددا و( السعد) بصبص للزواج مؤملا و( زياد) أوصى بالدعاء السجدا وأبوكمُ أضحى كحبل سفينة عبَّارة، والبحر هاج وعربدا كما لا ينسى أحفاده، وهو بهذا يجدد مشاعره الحانية تجاههم، وما أثبته في دواوينه قصيدة ( حفيدي ) التي كتبها في منتصف الثمانينات الميلادية وجاءت على شكل مقاطع تفعيلة على غير عادته في كتابة القصيدة العمودية المألوفة، ويأتي هذا التجريب كمحاولة إلى الدخول إلى النص الجديد في الحقبة التي شهدت معارك أدبية بين التراثيين والحداثيين. وقد أتت لغة نصه مختلفة عن أصل كتابته نوعاً ما بتصويره لذلك الطفل وما يرجوه له من التطلعات وفق ما تشير بوصلة الحياة. وبكونه جداً فإن التشجيع لا ينفك عنه مهما بلغ من العمر ففي قصيدته (حفيدتي منيرة) قدم فيها تهنئته لفلذة الفلذة التي ختمت القرآن الكريم معبراً عن بهجته بإنجازات النشء الجديد التي تلامس روحه. ويكتمل حسه العائلي بكتابته في زوجته رفيقة عمره فقد نبعت قصيدته من منبع الإنسانية ولم تتجلَّ في عذوبتها إلا لكونها صادقة المشاعر، وسر فرادتها أنها تعبر عن الحب المعاش القريب وليس الخيالي البعيد. لكل ظرف قوله، فمتى ما تزامن مرضه مع مرض شريكته في لحظة واحدة انطلق سؤاله بامتداد القصيدة بروح تعتمل بالعرفان : أأرْحَلُ قَبْلكِ أمْ تَرْحَلين وتَغرُبُ شَمْسي أمْ تَغرُبين ويَنْبَتُّ ما بيننا من وجود ونسلك درب الفراق الحزين ويذبل ما شاقنا من ربيع تؤرجه نفحة الياسمين وتسكب سحب الأسى وابلاً على مرقدٍ في الثرى مستكين الشعور بالانتماء والولاء للأسرة والاهتمام بأفرادها والحرص على الترابط بينها هو ما حرص عليه ابن نجد الذي جمع المشيخة والأدب تحت عباءة واحدة، إضافة إلى القضايا الكبرى التي احتلت الحيز الأكبر من أعماله الشعرية.