الوسطية.. بين الوهم والحقيقة.

في عالم تتقاذف فيه التيارات، وتتنازع الأفكار على شرعية التمثيل، يبرز مفهوم «الوسطية» بوصفه الملاذ الآمن لكل من أراد أن يُقدِّم نفسه باعتباره ممثلًا للعقل، رافضًا للتطرف، ساعيًا للتوازن. لكن، هل الوسطية واقع موضوعي أم شعار يسهل رفعه ويصعب تحديد مضمونه؟ وهل يستطيع أي تيار أن يحتكر هذا المفهوم أو يحتكم إليه دون تناقض؟ كتبت الأستاذة رقية الهويريني في «صحيفة الجزيرة» بتاريخ 22 يونيو 2025م مقالًا بعنوان «الفوضى الفكرية وبناء العقول» يعكس رؤية فكرية عميقة وتحليلًا فلسفيًا متماسكًا لواقعنا المعاصر، حيث تُبْرِز «الكاتبة» جدلية العقل وضبابية النص، كإشكالية مركزية في الاضطراب الفكري. وتقترح حلًا مؤسسيًا يتمثل في تأسيس هيئة فكرية مستقلة ذات صلاحيات واسعة، تمارس دورًا وقائيًا وعلاجيًا. ومن مصاديق راي «الكاتبة» أن كل من الأطياف الفكرية -على اختلاف توجهاتها - يزعم أنه ثاويًا في نواة الوسط، وأن خصومه هم من يمثلون الإفراط أو التفريط! فأين تكمن المعضلة يا ترى؟ إنها في ادّعاء كل تيارٍ أنه ممثلٌ للوسطية والاعتدال! تلك ‹المنطقة الخضراء› التي كثيرًا ما تُرْسَمُ في الخيال، ولكن قلّما نجد لها في الواقع وجودًا متفقًا عليه. لم أتحاور مع ليبرالي، ولا قومي، ولا يساري، ولا يميني، ولا سلفي، ولا إخواني، ولا طائفي، ولا عنصري، إلا ويزعم أنه سارية لِعَلَم «الوسطية» وأن غيره هو المتطرف. من سلفي يرفض الغلو الفكري، إلى ليبرالي يعارض الانفلات الأخلاقي، إلى قومي يدعو للتوازن بين العروبة والإسلام. الكل يدّعي الوسطية. لكن أحدًا لا يوافق الآخر على حدود هذا المفهوم. وقد تحولت الوسطية من مفهوم جامع إلى ساحة صراع، يتقاذفها الخطاب الإعلامي والديني والثقافي، دون أن يجرؤ أحدٌ على تقديم تعريف جامع مانع لها. لماذا يحدث كل ذلك؟ لأن الإنسان حين يقف، لا يرى سوى من هم على يمينه ويساره، فيتوهم أنه في المنتصف، ثم يتولد لديه إحساس مُتَخيَّل بالوسطية. والحقيقة أن «الوسطية» برغم ما تحمله من جاذبية، تبقى شعارًا فضفاضًا، لم يُجْمِع «الفلاسفة» حتى يومنا الحاضر على معايير دقيقة تُحَدِّد ملامحها بجلاء. فالجميع يزعم «الوسطية» بينما يغيب أي معيار متفق عليه لتعريفها. فهل نحن أمام مفهوم حقيقي للوسطية؟ أم نعيش في خيال جماعي مشترك؟ «الوسطية» موقعٌ نسبي متغير بتغير الزمان والمكان. فمَن يوصف بـ»الليبرالي المعتدل» في بيئةٍ ما، قد يبدو متطرفًا في بيئة أخرى، والعكس صحيح. لذا، فإن إدراك «الوسط» نسبي، ويخضع لتموضع الأفراد لا لقياس موضوعي متفق عليه. لم ينجُ المفهوم حتى من الجدل الفلسفي. فقد حاول «أرسطو» أن يُعَرّف الفضيلة بأنها «الوسط بين رذيلتين» لكنه ترك أمر تحديد هذا الوسط لاجتهاد شخصي. أمّا «المعتزلة» لم يقدموا مفهوم «الوسطية» بوصفه شعارًا أو مصطلحًا صريحًا، كما هو شائع في الأدبيات المعاصرة، لكن روح «الوسطية» العقلانية كانت حاضرة في بنيتهم الفكرية. فقد سعوا إلى إقامة توازن معرفي بين العقل والنقل، فالعقل عندهم هو المرجع الأول في التمييز بين الحسن والقبيح. فما النتيجة بعد كل ذلك؟ لا تحرير دقيق لمصطلح «الوسطية» ولا اتفاق واضح على تعريف محدد، يُخرجها من كونها توصيفًا أخلاقيًا عامًا إلى معيارٍ عملي يُقاس عليه ويُعتد به. كثيرًا ما نتخفى وراء «الوسطية» للهرب من تبنّي مواقف محددة. فهي بالنسبة للبعض تعني التوازن، ولدى آخرين تعني عدم الانحياز، وأحيانًا يُعَرَّف «اللاموقف» باسم الحياد. وهنا تكمن خطورة أخرى، وذلك عندما تتحول «الوسطية» من حكمة التوازن إلى ميوعة فكرية لا تُغضب أحدًا، لكنها أيضًا لا تُنقذ أحدا. فأن تكون وسطيًا لا يعني أن تكون رماديًا، بل أن تملك القدرة على رؤية جوانب المسألة كافة، واتخاذ موقف متزن، واضح، وشجاع. العديد من الخطابات المؤدلجة توظف «الوسطية» كسياج أخلاقي يحميها من الانتقاد، أو كوسيلة للتقرب من الجمهور. فكل طرف يلبس ثوب «الاعتدال» ولو كان في جوهره متشددا. وقد أصبحت «الوسطية» في بعض الأحيان غطاءً فكريًا ناعمًا لخطابات الإقصاء أو مزمارًا جهوريًا لمشاعر التفوق. وهذا الاستخدام الدعائي أفرغ المفهوم من مضمونه، فتحولت «الوسطية» إلى شعارٍ فارغ لا يعكس بالضرورة فكرًا معتدلًا، بل مجرد مسوِّغ للتموضع الآمن. إذا كان كل طيف عقائدي، أو تيار فكري يزعم أنه يمثل الاعتدال، فربما علينا أن نتواضع قليلًا، ونعترف بأن «الوسطية» ليست شعارًا بَرَّاقًا نردّده لنُبرئ أنفسنا، بل موقف يتطلب شجاعة معرفية، ونقدًا للذات، وقبولًا بأن «الاعتدال الحقيقي» يبدأ من الفهم، لا من التموضع. فربما تكون «الوسطية» اليوم ليست في أن أقول أنا معتدل، بل في أن أسأل نفسي (ما الذي يجعلني أظن ذلك؟ ومن قال إن غيري هو المتطرف؟). رغم كل التحفظات، يبقى لمصطلح «الاعتدال» قيمة محتملة إن أُُعيد ضبط معاييره. فالوسطية الحقيقية ليست نابعة من شعور شخصي بها، بل من موقف أخلاقي يرفض الغلو، لا خوفًا من ردود الفعل، بل إدراكًا لعواقبه. وقدرة على تقبّل الاختلاف، دون الوقوع في النسبية المفرطة أو الإقصاء الدوغمائي.