غشاوة عقل

في زمنٍ لم تعد فيه المعرفة حكرًا على الكتب أو المعلمين، بات الوصول إلى المعلومات أسهل من أي وقت مضى؛ فبنقرة زر تفرّغ المعرفة ذخيرتها مرة واحدة وتُفتح أمامنا المكتبات، وتنهال علينا البرامج والدورات المتنوعة، والمقاطع المرئية التي لا حصر لها. ومع هذا الانفجار في المحتوى، يواجه المتلقي تحديًا جوهريًا: كيف نحافظ على عمق التعلم في عالم سريع الوتيرة وضعيف القشرة؟ المعرفة لا تقتصر على الاستماع فقط، بل التمهل، والتأمل، والربط، والعودة، والشك، والتساؤل. لكنها أصبحت عملية مقاومة شبه واعية للبيئة الرقمية التي تدفعنا نحو التصفح السريع، والتنقل العشوائي بين المواضيع، دون تمكّن أو ترسيخ، وكأننا نرش الرذاذ على شجرة ظمأى وهي تنتظر أن يدلق الماء عليها...! المشكلة ليست في الكم، بل في الإيقاع؛ فسرعة الإيقاع حولت المحتوى إلى سباق، فحثثنا الخُطى، وأصبحت الغاية إنهاء الدورات لا استيعابها، وتقليب الكتب لا التلذذ بسطورها وخشخشة صفحاتها، نكتفي بالملخصات، ونشاهد المقاطع القصيرة، ونستهلك محتوىً كبيرًا في زمن قصير، فيتوهم العقل أنه تعلم، لكنه لم يتغير! ومع هذا الرتم تلكأت عقولنا، وظهرت عوامل تجويتها وتجويفات بواطنها، فنحن نجيد الاستماع ونهرب من الحديث.. نتفنن في الاطلاع ونفشل في الفهم.. نحفظ وننسى.. أصبحنا نسبح في الشاطئ ونسير في البحر...! لعل المنقذ لعقولنا هي ممارسة القراءة العميقة؛ فالقراءة بتركيز وبطء أشبه بالطبيب العقلي لتهدئة الرتم المتسارع الذي اعتاد الدماغ فعله في معالجة المعلومات، والتدوين أيضًا هو الوصفة الطبية لحل كل عوامل التعرية تلك. ولا بد من تحويل التصفح العشوائي إلى التعمق الواعي، وأعني بذلك تحويل المتابعة إلى تعلم، والسرعة إلى تأمل؛ فالعمق يمنحنا الإجابة قبل السؤال، ورؤية ما لا يُرى، وسماع ما لا يُقال، والمعرفة لا تسكن العقل السطحي، بل تحكم طوقها في عقول المتأملين. ونستطيع القول بأن مشاركة الآخرين المحتوى «علّم لتفهم» أشبه بالإبرة التي تستحث مكامن الذاكرة. نحن في عجلة تدور بنا إلى الأبد، ولكن نحن من يحدد مركزتيها؛ فعندما نصعر عقولنا سنكون في حلقة أفعوانية تحوم بنا نحو نفسها، وعندما نخترق تلك الغشاوة سنقود العجلة ونشد تروسها ونزن سرعتها ونحدد نهايتها، ونختم بقول قد يجعلنا في مواجهة مع عقولنا «حين قسم الله الأرزاق لم يرض أحد برزقه، وحين قسم العقول رضي كل إنسان بعقله». في النهاية، العمق ليس ترفًا، بل ضرورة في زمن تُختزل فيه المفاهيم في تغريدات، وتُختصر الكتب في دقائق. ومن يسعى للتميّز وسط هذا الضجيج عليه أن يختار بوعي، ويقرأ بوعي، ويتغير بوعي، عليه أن يتوقف، ويتأمل، ويغوص في أعماق لا يجرؤ كثيرٌ عليها.