(الدرعية) ذاكرة الطين الحيّة.

ما الذي يدفعنا للحنين نحو الماضي؛ وما هي أسرع حواسنا إحساسًا بذلك، وهل الذاكرة هي التي تُحيي فينا ذلك الشعور وتدفعه لكل حواسنا ككل؟! أفكر مليًّا في الأمر مرة بعد أخرى كلما أخذ والدي بالحديث عن (القريْ) (قري سلمان وقري حصة) و(شلالة) و(القرينين)، كمعالم خالدة في ذاكرته ما إن يبدأ بوصف تلك البيوت والمنعطفات من ذاكرة عينيه، حتى يُسهب في سرد القصص والأحداث من ذاكرة مسامعه، وصولًا لذاكرة أنفه ورائحة الطين والتين، رائحة النخل والعنب، حتى (يسفهلّ) ثم تُشرق في ملامح وجهه ابتسامات متوالية وحنين كبير لا يمكن ترجمته إلا بالراحة النفسية التي تظهر عليه حتى ينقطع حديثنا. من هنا أستطيع القول أن ذاكرة الإنسان تقوم على ثلاثة محاور رئيسية، صور، وسرديات، ورائحة، إن اكتملت في ذهنه في لحظة تجلّي فإنه سيعيش ماضيه في حاضره، يعيش ذلك وجدانيًا لا واقعًا، يعيشه بروح الحنين وحسب، ثم يعود إلى حاضره ويمضي إلى مستقبله، وهذا ما تعمل عليه بلادي في مشروعها التاريخي الأضخم (الدرعية) فمنذ انطلاق اللبنات الأولى كان واضحًا أن هنالك هدف عام وأسمى، وهو إحياء ذاكرة وطن عظيم، وترسيخ قيمه ومبادئه، وفكره وقصصه وملاحمة العظيمة، فالدرعية ومشروعها الحضاري ليس مجرد ترميم للذاكرة المعمارية وحسب، بل هو خلق فرصة حقيقية ليكون للطين معنى؛ وللنخل مغنى، وللناس منصى، أي أن الدرعية ليست مشروعًا نستعيد فيه عمارتنا التاريخية وحسب، بل استعادة الشعور والإحساس، والتقاط خيط حكاية الحياة التي بدأت هنا وتموسقت ليكون هذا الوطن كبيرًا بطموحه، وثقته، وقوته، ثم إكمال نسج بقية الحكاية لمستقبل أبهى وأجمل. يقول المفكّر السوري برهان غليون في كتابه اغتيال العقل « ليس هناك أمة تستطيع أن تستوعب الحضارة وإبداعاتها الجديدة في إطار غير إطار ثقافتها « ويقول أيضًا « النهضة هي التي تخلق بشكل ما التراث عندما تُعيد تأويله وتفسيره وتستوعبه ضمن إشكالياتها»، فالنهضة معرفة وعلم، إدراك واستيعاب، قبل أن تكون معالم ومبانٍ مشيّدة، وحريٌّ بنهضتنا أن تستمدّ قوتها من تاريخها، وعراقتها، وعمقها، وفلسفتها، ولا شكّ أن الدرعية هي الوجه الأبدي لذلك التاريخ بشموخه ورمزيته، برجالها، وفرسانها، بنخيلها وجبالها ووديانها. إن ما تشهده مدننا ومناطقنا ومحافظاتنا من مشاريع تنموية حضارية نحو إحياء التراث هو أمر محمود إلا أنه يستحق الاهتمام بعمق أكبر؛ يشمل تعزيز الذاكرة الشعبية، لأدباء وشعراء ورواة ورسامي تلك المناطق، وإعادة إحياء القصص والحكايات والأساطير التي نشأت بين ناسها جيلًا بعد جيل، وأن لا نكتفي فقط بالطين كشكل معماري صامت، وأعلم أن ذلك عمل مضنٍ ولا ريب، لكنه يستحق العناء لعمقه وما سيشكّله من ذاكرة جمعية شعبية نفهم من خلالها منطلقات تفكير شعوب المناطق، وطرائق حياتهم وأساليبهم، وعلى ذلك أضع اقتباسًا لكارل غوستاف عالم النفس السويسري الذي يقول فيه « التراث الثقافي هو اللاوعي الجمعي للشعوب، وتدميره يجعل الأمم تعاني من فقدان الذاكرة».