في «سيرة من رأى» للدكتور عثمان الصيني..

منابع الثقافة في الطائف من «البسطات» إلى المكتبات.

كتب الأستاذ إبراهيم مضواح الألمعي عرضا شاملا رشيقا لهذه السيرة الغنية التى اتخذت شكلا فريدا وموحيا. فإنك هنا ترى الكاتب في زاوية المشهد المفعم بالتفاصيل بحيث تكتسب كل زوايا المشهد وضوحا، وتصبح الصورة الكلية أكثر ألقا. ولا أظن أن مقالا واحدا أو عدة مقالات كافية لإعطاء هذه السيرة ما تستحقه من حفاوة.   أدهشني الفصل الذي كتبه عن الحياة الثقافية في الطائف من خلال مكتباتها، وجلسات مثقفيها في أسواقها ومقاهيها ينثرون ما يعرفون من تاريخ ومعارف، وذلك قبل ظهور المراكز الثقافية الحديثة ومعاهد العلم. المشهد حاشد بالتفاصيل، ما يترك عند القارئ انطباعا عن حالة ثقافية ثرية، ولعل كون الطائف لفترة طويلة عاصمة البلاد في الصيف أكسبها هذا المشهد، الذي للأسف قد أصبح نادرا، بعد أن اندثرت مكتبات الكتب الورقية أو تكاد. ولقد مررت قريبا بالأسواق والمساجد التى ذكرها الكاتب فلم يلفت نظري شيء له علاقة بالكتب والمكتبات.     في السوق الكبير كان باعة الصحف والمجلات ينطلقون من مكتبة الثقافة، يتأبط الباعة حصتهم من المطبوعات، يتجولون صائحين “ ندوة، بلاد، مدينة، عكاظ”، و معهم باقة من المجلات المصرية و أخري من المجلات اللبنانية، المقتدرون يشترون الأعداد الجديدة، بينما يبحث الآخرون عن عدد الأسبوع الماضي “ الرجيع “ ويشترونها بأربعة قروش بعد اقتطاع الترويسة التى تضم شعار المجلة ورقم العدد والتاريخ، وكان نصيب الأطفال من المجلات وافرا، هناك سوبرمان، و ميكى، سمير، سندباد…،  وكان الباعة يفرشونها في بسطاتهم على جوانب مسجد الهادي، ورواد السوق يتصفحونها. أما إذا دخلت المسجد فإنك واجد مكتبة في الدور الثاني، يغلب عليها كتب التفسير والعقائد، والحديث والفقه الحنفي والشافعي والمالكي والزيدي، وكتب الأدب والتصوف إلى جانب عدد كبير من المخطوطات. و حولها رواد من أدباء وعلماء الطائف وآخرون من زوار الصيف من مكة واليمن، ويحتد النقاش أحيانا حول الوهابية والحنابلة وغيرها.  ولكل كتاب قصة، كتب مكتبة مسجد عبدالله بن عباس تنقلت كثيرا حسب العمارات المتعددة التى تعرض لها المسجد هدما وبناءً وترميماً، وانتهى بها الأمر إلى التخزين في أكياس خيش ورميها أسفل منارة المسجد، وعندما يرغب أحد المهتمين في الاطلاع عليها يعطيه القيم على المسجد المفتاح فيذهب ويقلب فيها كيف شاء، وما بين التخزين والتقليب يتلف منها عدد غير قليل أو تتمزق أوراق الكتب والمخطوطات. أسس المكتبة والي الحجاز التركي في نهاية القرن الثالث عشر الهجري محمد رشدي باشا الشرواني، وأعاد افتتاحها وزير الأوقاف حسن كتبي عام  ١٣٨٤ ،  نُقلت الكتب إلى مسجد الهادي بسبب ترميم مسجد إبن عباس، تردد الكاتب عليها وتعرف على بعض نوادرها عندما كان صغيرا ثم انقطعت صلته بها يوم عادت إلى مكانها. وعندما كان صاحبنا في مرحلة الماجستير طلب أحد الزملاء من كلية دار العلوم في القاهرة  مصورا لإحدى المخطوطات النادرة في مكتبة المسجد، زار صاحبنا المكتبة بعد طول غياب، لقيها وقد فقدت بعض نوادر الكتب التى اطلع عليها سابقا، وتلفت أخرى،  فتطوع الكاتب لفهرستها، عُرض الأمر على القائمين، استحسنوا الفكرة، ولكن الموافقة يجب أن تأتي عبر طريق طويل ذي محطات، من الكلية المتوسطة إلى دار الأوقاف بالطائف ثم وزير الحج و الأوقاف، وفي كل مرحلة مخاوف ومناقشات وتعهدات، وبعد ثمانية أشهر جاءت الموافقة ممهورة بتوقيع الوزير شخصيا. كانت مهمة عسيرة لكن الرجل تصدى لها، واستعان في إتمام المهمة بمركز الملك فيصل للدراسات والبحوث، وحاول الاستفادة من خدمات متحف سميثونيان في واشنطن، وبعد عقبات بيروقراطية عسيرة تم الانتهاء من الفهرس، ووزعت ١٠٠ نسخة على المهتمين، وعندما وقعت نسخة منها بيد د. محمد الطناحي أصر على طبعها وتوزيعها على نطاق واسع فطُبعت في معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية. وشرق الفهرس وغرب، وصلت نسخ منه إلى مكتبة الكونغرس والمتحف البريطاني، ثم طبعها النادي الأدبي بالطائف.   يذكر الكاتب أن مكتبتين من مكتبات الطائف قد ضاعتا، إحداهما مكتبة عائلة القاري، وهي عائلة توارثت العلم والعقار لفترة طويلة، والثانية مكتبة الشريف حسين بن علي، التي كانت ملحقة بقصره، وحوت كتبا ومخطوطات نادرة، وقد احترقت ضمن القصر الذي دمرته الحامية التركية إبان الثورة العربية الكبرى.   يأخذنا الكاتب في جولة أخرى في السوق لنمر بمجلس الأديب أحمد السباعى أمام إحدى الدكاكين ، ومن ثم إلى خان الأوقاف حيث مجلس منصور الأشموني في دكانه وعنده الأديبان محمود عارف وأبو تراب الظاهري، عائلة الأشموني لديها مكتبة نادرة منذ أيام الجد على الأشموني صاحب كتاب “ منهاج السالك في شرح ألفية إبن مالك”. ثم نمر بزقاق البريد القديم لنجد السيد على اليمني في مكتبته، لم يكن المكان مجرد بورصة للكتب المستعملة وإنما كان مركز تثقيف لمعظم المهتمين بالقراءة من سكان الطائف وزوارها. كانت تعكس الانفتاح الفكري والثقافي وتكشف اهتمامات الناس وقراءاتهم، يشتري روادها كتبا يقرأونها  ثم يعيدون بيعها ويشترون بثمنها كتبا أخرى، وهكذا دارت كتب المكتبة على معظم الأدباء و شُداة الأدب، وعكست أجواؤها أصداء ما يدور في الساحة السياسية و الثقافية في العالم، على يمين المكتبة مؤلفات “الإخوان المسلمون” و نشراتهم السياسية، منها كتب سيد قطب وكذلك كتب سعيد حوى من سوريا و كتب أبو الأعلى المودودي من باكستان، وعلى يسار المكتبة تجد كتبا تتحدث عن الاشتراكية والشيوعية  بكافة أطيافهما، كما تجد كتبا خُصصت لنقضهما،  ثم كتبا في الفلسفة والفكر، بينها مؤلفات سارتر وكولن ولسون، وسيمون دي بوفوار، يجلس عند السيد المثقف طالع الحارثي، يجيب السائلين عن فرويد وهيجل و سارتر،  كما ترى بين آن وآخر مجموعة من المثقفين الذين صار لهم شأن، مثل سعد الحميدين، وعبدالله باخشوين، وحمد الزيد وفهد الخليوي وعبدالله السالمي. وقد ترى الأديب سعد الثوعي الغامدي يفاصل السيد في ثمن كتاب “ أفيون المثقفين”، يطلب السيد سعرا عاليا : هذا الكتاب “يدورون له دواره”، يرد الثوعي: “هذا الكتاب عن الأفيون لو جاتك كبسة مثل الأسبوع الماضي تروح فيها”. يلمح إلى عدة مواقف، كان السيد يُستدعى فيها للتحقيق، بخصوص كتاب باعه لأحد الأشخاص مثل كتاب رأس المال لماركس، وقد تعرض السيد للتحقيق مرارا، لكنه لم يسجن ولم تغلق مكتبته.  علاقة السيد بزبائنه علاقة عاطفية، فإن لم يكن عند القارئ مالا يدفعه، يعطيه الكتاب يوما على أن يرده في اليوم التالي، وقد يُقرض أحدهم مالا. ويحدث أن تجد في المكتبة شابا اسمه علي النحاس، وهو قارئ نهم، باع كتبه للسيد، ثم اشتاق إليها وأراد أن يستعيدها، كانت معظمها قد بيعت، وأخذ السيد على نفسه إعادة شرائها.  مع الوقت انفتحت آفاق جديدة للثقافة، أحضر الشباب ما يقرؤونه من مصر ولبنان واستطاعوا تمريرها رغم الرقابة الصارمة، كما انتشرت مكتبات منافسة في الرياض وجدة وتوارت مكتبة السيد إلى إحدى الزوايا المعتمة في السوق،  في الجانب الآخر من السوق حيث حي السلامة- التي سكنها الفيروزأبادي صاحب القاموس المحيط - تجد مكتبة الثقافة وهي فرع من المكتبة الأم بمكة. عادة ما يتزاحم عليها الطلاب ليعرفوا أسماء الناجحين التى تعلن في الجرائد اليومية، كذلك توزع مجلة العربي ذائعة الصيت، وكان المثقفون يحرصون على استكمال مجموعاتهم منها. استقل أحد العاملين فيها بمكتبة أخرى لم يسمها المؤلف، حرصت على بيع الكتب النادرة الجديدة والمستعملة ، ونافست مكتبة السيد لكن صاحبها كان أكثر تنظيما وأفضل عقلية تجارية ، وكان يبيع بالدَين للمثقفين ، وإذا وصلته كتب جديدة كان يحجز بعضها لهم، حصل منها الشاعر سعد الحميدين على كتاب الأغاني بمبلغ مائة وعشرين ريالا، بينما لم يتمكن صاحبنا من شرائها إلا بعد فترة ساعدته أخواته على توفير ثمنها الذي بلغ حينها مائة وخمسين ريالا.  وفي غربي السوق تقع مكتبة المعارف، يجلس فيها محمد سعيد كمال ، يقصده السائلون عن المسائل الشرعية وتوزيع الوراثة، وقد جمع كثيرا من الشعر الشعبي في كتاب “الأزهار النادية في شعر أهل البادية”  ثمانية عشر جزءا. كان وراقا ذكيا يعرف كتب التراث وأماكنها، وكتب المخطوطات ونُساخها وإينما تراه تجده يبيع الكتب أو يشتريها، قابله الكاتب في أكثر من مكان من مخازن الكتب في القاهرة واسطنبول. تقع مكتبة الجيل في الجانب الغربي من السوق أيضا تقابلها مكتبات منها مكتبة السناري التى تقع على سور مسجد الهادي ، وكانت تعرض الكتب الشعبية، مثل “ ألف ليلة وليلة” طبعة بولاق، وسيرة عنترة بن شداد، والسيرة الهلالية، وسيرة الأميرة ذات الهمة، والمياسة والمقداد والأسد والغواص، يأخذ الكاتب الكتاب بثمنه ريالين ونصف، ثم يعيده بعد يومين ويتقاضى عنه ريالين. بعد فترة نشأت قريبا منهما مكتبة المعرفة. في الجانب الشرقي مكتبة السيد المؤيد الحسني، وهي مكتبة شرعية تراثية، أن دخلتها تجد الشاعر أحمد الحضراني، وعلماء من اليمن والحجاز يلتفون حول السيد المؤيد، يتناقشون في أمور مختلفة، مثل كروية الأرض، وجواز تقليد الغرب في لبس الشناقيط (البدلة الإفرنجية) ، وحرب اليمن، وقد حضر صاحبنا فيها نقاشا صاخبا، يوم نزلت مركبة أبولو ١١ على سطح القمر، وكان أكثرهم متشككا.    حديث الكتب حديث عذب وقد ذكرني بمكتبة متخصصة في الكتب الطبية في القاهرة، يأتي طالب الطب يسأل مثلا : أريد كتابا في طب الأنف والأذن والحنجرة يرد عم زكريا: عندك وقت، يقصد وقتا طويلا قبل الامتحان، أو يسأله : ناوٍ على تقدير إيه، فمن ينوي الحصول على امتياز اختار له كتابا، ومن نوى أن يمر بسلام اختار له كتابا ٱخر.  وقد مر علينا زمان ودعنا فيه بحرقة كثيرا من مكتبات الكتب الورقية وآمل ألا ننتهي إلى توديع الكتاب نفسه.