في مجموعة منصور المهوس القصصية (العنكبوت)..
التزام بأصول فن القصة القصيرة وموازاة دلالية بين عالم الإنسان و الحشرات في الطبائع و السلوك.

العنكبوت مفردة تنطوي على حمولة دلالية ثرية لها سياقاتها المتعددة ومرجعياتها المختلفة؛ فالعنكبوت يرتبط بصورة الضعف في قوله تعالى: “إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت”، ما جعله رمزًا للهشاشة وعدم الثبات ،وفي الشعر العربي القديم والحديث يوظّف أحيانًا للدلالة على العزلة، الانزواء، أو النسيج الذي يحبس الذات. بعض الشعراء الحديثين استلهموا خيوطه كرمز للتعقيد والاغتراب.، وعند بعض الفلاسفة (كهايدغر أو سارتر) يستحضر العنكبوت في صورة “المصيدة” التي تشبه وضع الإنسان في شبكة الوجود قد يظهر كرمز لـ المكر والتدبير الخفي (الشبكة التي تُخفي الفخ خلف جمالها)، أو كرمز للقوة الأنثوية المبدعة (النسيج كفن). وفي التحليل النفسي (يونغ/فرويد) العنكبوت يرتبط بالـ “أم المتهمة” أو المخاوف العميقة، لكن أيضًا بطاقة الخلق وإعادة تشكيل العالم، وخلاصتها تتمثل دلالياً في الهشاشة / الوهن البيت الواهي المكر / المصيدة) شبكة محكمة. •(العزلة / الانطواء زاوية العنكبوت). •(الإبداع / الخلق فن النسيج). •(التهديد الوجودي) الخوف من الأسر في الشبكة. وقد رأيت أن أبدأ بقراءة القصة التي تحملها عنوانا لها و للمجموعة بكاملها ، واللافت فيها أمران : الأول :إنها تأتي إطارا شاملا يحمل رؤية الكاتب والثانية استثمارها علامة لغوية دالة على الوهن و الضعف في سياقاتها الشائعة ؛إذ يضرب بها المثل على الهشاشة و الضعف “ إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت) وهي تأتي في هذه القصة دالة على القوة والقدرة على الهجوم و الغلبة عبر مفارقة تدل على ازدواج النقيضين : القوة و الضعف ؛ وهنا مكمن الإبداع في هذا النص ؛ فالكاتب عمل على موازاة البطولة في هذا النص السردي بين الحشرة و البشر في نموذجين دالين ،عمد إلى جعلهما طرفي دراما الصراع من أجل الوجود؛ النموذج البشري يتمثل في العم أبي صالح وسيارته الصدئة المتهالكة، و فقره المدقع الذي لم يتمكن معه من تجديد (الاستمارة و الرخصة) في مواجهة رجل المرور الذي سخر منه و أصر على مخالفته رغم رجائه وإلحاحه على إعفائه من المخالفة ، والنملة التي تحمل ما هو أكبر منها حجما و تخوض صراعاً يائساً مع العنكبوت الذي يمتصها ويقضي عليها بعد صراعه المرير في أعلى النخلة. عالمان : الأول يختص بالحشرات التي تكون الغلبة فيه للعنكبوت ، والثاني ستصل بالبشر و تكون فيه الغلبة لشرطي المرور . جاءت الخاتمة متضمنة للحظة التنوير في خلاصة اختزل فيها الكاتب موقفه، حيث اكتمل المشهد المأساوي بعناصره كافة، خسر العم أبو صالح الجولة مع رجل المرور كما خسرت النملة مع العنكبوت الذي امتص مكوناتها حتى الثمالة: بخاخ الربو و نوبة السعال وتدفق المادة البنية في الجوف المعتل المظلم الذي أنهكه الدخان ككهف قديم. في نموذج آخر يتمثل في قصته (حدثني الظلام) يستل الكاتب وقائعها من ذاكرته؛ فهي تنبني عن المثير( المحفز) الذي يتمثل في عناصر عدة حشدها الكاتب في أجواء المكان ذاتها التي رسمها في القصة السابقة : الضيق و الغبار و القلق، واستذكار الكائنات الحشرية الصغيرة :النمل والخنافس التي تتماهى معها تفاصيل الحدث وحركة اللاعبين ، كما فعل في القصة السابقة ، يستثمر الكاتب أسلوب المذكرات وما يثيرها من أجواء يحرص على حشد تفاصيلها ممثلة في حالة التوتر المأزومة ، وهي القاعدة الأساس التي ينطلق منها فن القصة القصيرة ، وظاهرة الحشد المتعلقة بتفاصيل المكان بما تثيره من أجواء نفسية وملامح بيئية ، لها خصوصيتها نلمح فيها ظواهر ذات ملامح شعبية يلفتنا فيها التركيز على هوامش الأشياء والأحياء في هذه البيئة كالشقوق الطينية و النمل وتتقاطع فيها قسمات الضيق و البؤس مع ملامح المكان، واللعبة الشعبية المفضلة في تلك البيئات الشعبية ذات الكثافة السكانية ، حيث تتضافر الظواهر البشرية و الكائنات الصغيرة وملامح المكان مع حركة الحدث وخصوصا لعبة (كرة القدم) وما يتبعها من ألقاب شعبية تطلق على اللاعبين من الأصدقاء في تلك البيئات المحتشدة بظواهر الضيق والبؤس، ويحشد الكاتب التفاصيل البائسة التي تُذكرّه بما اختزنه في ذاكرته عن الماضي الذي أنفقه في تلك الحارة الشعبية، وخصوصاً تلك اللعبة المفضلة (كرة القدم) في مفارقة دالة، فهذه اللعبة تقتضي الرحابة و السعة و الانطلاق في حين يتناقض ذلك مع المتاح من المساحة التي تتطلبها تلك اللعبة ، واللافت أن الكاتب يلتزم ظاهرة بيّنة تتمثل في استحضار الحشرات في توصيف الحالة النفسية التي يعانيها الأشخاص “سرى الهلع في ذواتنا كالنمل، طوقنا الخوف كالبعوض” ويحرص على أن تكون الذروة في بنية القصة فادحة ،ممثّلة في الموت الذي يعني الفقد و الرحيل بوصفه المثير الأشد لاستنبات الأزمة ، وتتكاثف عناصر الأزمة في تصاعد منتظم يبدأ باللعب و السقوط والخوف من الموت ؛ فنقل الميت إلى بيته واللوذ بالفرار ومجيء رجال الشرطة و التحقيق ، وتنتقل الأزمة من الظاهر إلى الباطن ، من كونها حدثاً ملموساً إلى تحولها إلى مأساة نفسية ، واستبطان الأسباب و النتائج ، ثم الانتقال من ذكريات الماضي الذي بلغ به الذروة إلى الأزمة الراهنة بعد فاصل زمني طويل؛ إنه استحضار للماضي في أكثر اللحظات تأزّماً إلى الحاضر في توتره حيث ، تبدو ذكريات الماضي معادلاً موضوعياً لأزمته الراهنة، وهذا التشكيل الجمالي للنص يبدو رغم مألوفيته لدى البعض تحولاً ملموساً في حداثة التشكيل و بناء السرد. في قصة أخرى طال فيها الشريط اللغوي أكثر من غيرها احتفل فيها بتفاصيل كثيرة وتنقّل بأحداثها بين بيئات ثلاث: المدرسة و إدارة التعليم و البيت، وجاءت حافلة بالحوارات المسرودة، و جاء عنوانها موحياً رامزاً (قوس قزح) وهي قصة ذات طابع تربوي ومسحة انتقادية ونكهة استذكارية، وأزمة نفسية؛ تعددت مفاصلها وإن بدت تسير في منحى خطي تتابع فيه الحوادث وتتصاعد حتى حدود الأزمة حيث تتشابك الخيوط ثم تنفلت حول الحل في واقعية مكشوفة ذات بعد انتقادي، وقد تميزت عن غيرها من قصص المجموعة في استهلال الكاتب له بمقدمة وصفية للطبيعة موحية بما ستتضمنه من وقائع ، ومعرفة أن ذلك يعود بنا إلى البناء الكلاسيكي للقصة القصيرة ؛ فالمعروف أن القصة القصيرة الجيدة هي (محذوفة المقدمة) ولكن الكاتب لم يستغرق في وصف البيئة الطبيعية المحيطة بالحدث كما كان يفعل الرواد ؛ بل حرص أن يربط بينها و بين الحدث مباشرة و على نحو وثيق، فالمناطق الداكنة تحت السحب التي كادت أن تحجب الشمس ترتبط بتجهم وجه المدير الذي يواجه مأزقا تربويا في مكتبه. التزم الكاتب منهجه المعتاد في تقاسم البطولة أو موازاتها بمعنى أدق بين الكائنات البشرية والحشرات في تبادل لإضاءة الدلالية والرمزية والفلسفية على نحو يبدو خاصاً به، ومن الملاحظ أن الشريط اللغوي في نصوصه يعدُّ طويلاً نسبيا؛ ولكنه لا يتبدى ذا ملامح روائية؛ بل يظل في إطار المواصفات الفنّية الخاصة بفن القصة القصيرة التي تتكئ على المثلث الأرسطي المألوف: (البداية والذروة والنهاية) وتتسم بالتوتر ومواجهة المأزق والعمل على الانعتاق من ربقته انسجاما مع التعريف الشائع للقصة القصيرة بوصفها (فن الأزمة) وليس من شك في أن للكاتب خصوصيته الفنية التي أشرت لها من قبل عند وقوفي على ما سبق من نصوصه القصصية. في قصته (الفحيح) يمضي على المنوال ذاته ينسجه على مهل ؛ لا يتناول موضوعا جديدا ؛ غير أنه يجدد أسلوب التناول فقضية الزوج السكير الذي تبتلى به امرأة تقية أمر شائع ؛غير أنه في صياغته اللغوية يلامس سقف الشعر و في تشكيله يبدو أقرب إلى كتابة المذكرات ، وفي تصاعد الموقف يقترب من حافة البوح و الاعتراف ؛ ويصبح التعويل على أسلوب الصياغة أساساً في المعالجة الفنية ؛ هناك موقف مبدئي يكشف عن صلابة جوهرية تتناقض مع الطرف الآخر ، وهناك وسيط مخاتل يزيف الحقيقة ويزين القبيح ، وشيئاً فشيئاً ترتد الأمور إلى أصلها تتمزق البراقع و تتكشف المواقع و يتجلى المشهد في السيناريو النهائي حيث تتم المواجهة الحقيقية؛ تحتشد الأساليب الانفعالية ممثلة في أسلوب التعجب ثم تنثال الكشافات السردية متسلطة على بؤر الأزمة كاشفة عن المسكوت عنه غائصة إلى عمق الكارثة، باحثةً عن الحلّ الصادم الباتر منذ العنوان العتبة الدلالية الأولى (الفحيح) مشيرة إلى الحية التي أقبلت تسعى مقنعة حواء لتتناول الثمرة من الشجرة المحرمة (تلك الأفعى الإفريقية) أخت الزوج المنتظر (قناع الشر) الذي حجب الرؤية عن الحقيقة وما زينته من أحلام وردية صعدت بها إلى أجواز الفضاء محلقة في الجنة الموهومة التي هبطت بها إلى سفح الخطيئة وبركان الشر ، واصطنعت تقنية المشهد والموازاة المعتادة بين عالم الخير و عالم الشر (الحية و الصل) من جانب و اللواذ بكنف الله من جانب آخر ، وكانت لحظة التنوير المنتظرة المعتادة الجديد فيها ذلك التعبير المجازي الشعري: “ حملت أغراضها، ثم اتجهت نحو الباب، وحزم ضوء الشمس تزحزح كتل الغبار أمامها، خرجت وفحيح أنفاسه يكاد يبعثر خطواتها. وتبدو هذه المجموعة ملتزمة بأصول هذا الفن، متكئة على قواعده الرئيسة؛ ولكنها تتميز بتلك الموازاة بين عالم الإنسان وعالم الحشرات في الطبائع و السلوك.