كاتب مثير للجدل يروي رحلته مع النص الديني..

أسامة يماني: الفقه عمل انساني..والتجديد ليس خروجاً عن الدين .

في فضاءٍ يموج بالأسئلة، ويضجّ بالخطابات المتنازعة، يطلّ الكاتب والباحث السعودي أسامة يماني بوصفه صوتًا مختلفًا، لا يساوم على حرية التفكير ولا يأنس بالمسارات المألوفة. فهو لا يكتب ليُرضي، بل ليضع القارئ أمام مرآة الحقيقة المربكة أحيانًا، واللافتة دائمًا. يماني، الذي عُرف بمقالاته المثيرة للجدل وقراءاته الجريئة في التراث والفقه والتاريخ، يتحدث هنا عن رحلته الطويلة مع الصحافة والفكر، رحلة قادته من الشغف بالكلمة إلى مساءلة الأنساق الراسخة، ومن الحرفية الضيقة إلى السياقية الرحبة. وفي حواره هذا، يفتح ملفات شائكة تبدأ من موقع المسجد الأقصى، ولا تنتهي عند نقد الأصولية الفقهية والدعوة إلى تجديد أدوات الاجتهاد، واضعاً إصبعه على جوهر السؤال: كيف نقرأ نصوصنا بروح العصر من دون أن نفقد أصالتنا؟ هذا الحوار ليس مجرد بوحٍ شخصي، بل شهادة على لحظة فكرية عربية مأزومة، يسعى يماني من خلالها إلى إشعال مصابيح النقد والبحث، مؤمناً بأن التجديد ليس خيانةً للتراث، بل إنقاذٌ له من الجمود، وأن الكلمة – حين تكون حيّة – لا بد أن تُزعج كي تُوقظ.. هنا نصّ الحوار:: ‬‬‬‬ • كيف تصف رحلتك في الكتابة الصحفية والفكرية حتى اليوم؟ وما الذي شكّل ملامح أسلوبك؟ ــ الكتابة بشكل عامّ وثيقة الصلة بي وبعملي وقد كنت شغوفًا بالكلمة وتأثيرها، فمن خلال الكلمة أقوم بصياغة أفكاري و اتواصل مع الآخرين، وانقل معارفي وقراءتي ،في كل مرحلة، كنت أتعلم مما ينعكس على كتاباتي ، أما عن رحلتي الصحفية حتى اليوم فهي كرحلة بحار يستزيد معرفة وخبرة عبر سنوات من الإبحار والبحث والتمعن والتدقيق. أما الذي شكل ملامح أسلوبي. الشغف بالقراءة،والتجربة الميدانية،والبيئة الثقافية التي نشأت فيها ، والنقد والمراجعة لأفكاري، والحرص على الدقة، و التزمت بالمصداقية والإنصاف، ورفضت الانجراف وراء الإثارة على حساب الحقيقة. • ما القيم أو المبادئ التي تعتبرها بوصلة في مقالاتك، مهما كانت حرارة الجدل من حولك؟ ــ المصداقية والبعد عن الإثارة والبحث والتحري، و أحرص على العمق لا السطحية والبعد عن إثارة المشاعر ، بل أسعى لتحليل الجذور والأسباب. أعترف بحدود معرفتي، وأترك مساحة للشك والتعديل. أكتب بعقلية «ربما أكون مخطئًا»، لا بوصفي حاملًا للحقيقة المطلقة. وفي نظري أن الكتابة لا تنفصل عن المسؤولية الأخلاقية. فأي فكرة أطرحها يجب أن تحترم كرامة الإنسان، والعدل والإنصاف . هذه المبادئ ليست مثالية مجردة، بل هي خيارات يومية تُختبر عند كل مقال. قد أُهاجَم أحيانًا لأنني لا ألتحق بالصراخ الجمعي، أو لأنني أذكر بما يُزعج الرأي السائد، لكني أؤمن أن الكلمة التي لا تُزعج أحدًا ليست سوى ديكور! • صدر مؤخراً تقرير في إحدى المنصات الرقمية تناولك بانتقادات لاذعة.. كيف قرأت ما جاء فيه؟ ــ لم أجد جدية في التقرير لبعده عن الموضوعية والمصداقية وسعيه للتحريف والاختلاق. لهذا لم أجد فيه ما يستحق المناقشة فأنا إذا وُجِّهت انتقادات لفكرتي أو منهجي، فهذا يُستحق المناقشة بموضوعية، أما إذا تجاوز النقد إلى التشهير أو التخوين وما إلى ذلك، فهذه إشارة لعدم جدية الطرح. • برأيك، هل كانت الانتقادات مبنية على قراءة دقيقة لفكرك ومقالاتك، أم أنها انتقائية أو مسيّسة؟ ــ لم تكن انتقادات بل افتراءات و انتقائية بعيدة عن الموضوعية والمنهج النقدي. • متى يختار الكاتب أن يردّ على النقد، ومتى يتركه للقراء كي يحكموا؟ ــ التقرير الذي نُشر بعيدٌ كل البعد عن الموضوعية أو النقد البنّاء، بل كان أقرب إلى الهجوم الشخصي. هذا التقرير يهدف فقط للإثارة أو جذب الانتباه، والرد عليها يُهدر الوقت ويُعطيه أهمية لا تستحق.يقول نجيب محفوظ «لا تشرح نفسك أكثر من اللازم.. فمن يكرهك لن يقتنع، ومن يحبك لا يحتاج لتبريرات.» وباختصار الرد فنٌّ يتطلب حكمة. • أين تضع الحد الفاصل بين حرية التعبير ومسؤولية الكلمة في الصحافة السعودية اليوم؟ ــ في المشهد الإعلامي السعودي اليوم، تُطرح أسئلة جوهرية حول العلاقة بين الحرية والمسؤولية، خاصة مع التحولات الكبيرة التي تشهدها المملكة على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فالحدود بينهما ليست ثابتة، بل هي مساحة ديناميكية تحكمها ضوابط أخلاقية وقانونية واجتماعية. الالتزام بالقيم الوطنية في أي مجتمع، لا يمكن فصل الإعلام عن ‏القيم الدينية والوطنية. فحرية التعبير لا تعني التعدي على المقدسات أو زعزعة الأمن الاجتماعي. الكاتب مسؤول عن توثيق معلوماته، وعدم نشر الشائعات أو الأخبار المغرضة التي تسبب فتنة أو ضررًا عامًّا. كما هو مسؤول حماية الخصوصيات. النقد المشروع للأفكار لا يعني انتهاك حرمة الأفراد أو التشهير بهم دون دليل. ويجب مراعاة التوازن بين النقد والولاء حيث يمكن أن يكون الكاتب ناقدًا بناءً دون أن يكون معاديًا أو مخربًا. الفرق هو في النية والمنهج. •ب صفتك كاتباً صحفياً عريقاً، كيف ترى دور الصحافة الثقافية في تشكيل وعي المجتمع وسط زخم الإعلام الجديد؟ ــ في زمنٍ تطغى فيه الضوضاء الرقمية، وتتنافس فيه منصات الإعلام الجديد على جذب الانتباه بسرعة المحتوى لا بعمقه، تبرز الصحافة الثقافية كحارسٍ للقيم الفكرية والجمالية، وكجسرٍ يربط بين تراث المجتمع ورؤيته المستقبلية. وككاتب رأي ، أرى أن هذا الدور يتجلى في ثلاثة محاور أساسية: ١-التنقيب عن الجوهري في زمن السطحي ٢-الحفاظ على الهوية وسط العولمة في عصر العولمة الرقمية، تُصبح الثقافة المحلية عرضةً للذوبان. هنا، تتحول الصحافة الثقافية إلى مُوثِّقٍ للإبداع المحلي (أدباً، فنوناً، تراثاً)، وحارسٍ للغة العربية، و ناقد للانزياحات الثقافية الدخيلة. ٣- صناعة حوارٍ ثقافيٍ واعٍ لا يكفي أن ننقل الثقافة، بل يجب أن نُفعِّلَها في المجتمع. الصحافة الثقافية الناجحة تُحول القراءة من نشاطٍ فردي إلى حراكٍ جماعي. الصحافة الثقافية ليست ترفاً، بل ضرورةٌ لتحصين العقل الجمعي. وهي وإن كانت بحاجةٍ إلى تجديد أدواتها، تبقى سلاحاً ضد التسطيح، ومِصباحاً يُضيء زوايا الظل في مشهدنا الثقافي. وكما قال العقاد: «الأمة التي تقرأ هي الأمة التي تقود». • ما أكثر قضية فكرية أو اجتماعية تشعر أن عليك الاستمرار في الكتابة عنها رغم الجدل؟ ــ قضية «الهُوية والانتماء في عصر العولمة» نحن في زمنٍ تذوب فيه الحدود الثقافية بين الشعوب، وتتصارع فيه التيارات بين الانفتاح والانكفاء، تظل قضية «كيف نحافظ على هويتنا دون أن نصير أسرى الماضي؟»هي الشاغل الذي أعود إليه باستمرار في كتاباتي، رغم حساسيتها واختلاف الآراء حولها. فهي ليست مجرد سؤال فلسفي، بل معادلة يومية تعيشها الأجيال الجديدة. قد يكون الاستعمار خرج من معظم البلاد العربية ‏بجيوشه، غير أنه في الأغلب مازال مهيمنا إقتصاديا و بنفوذه وسلاحه وتقنيته ومنتجاته وصناعاته والأخطر من كل هذا سرديته التي تشبّع بها العالم العربي والإسلامي. لذلك نحن في حاجة ماسة لإصلاح الفكر العربي وعدم كفاية الاجتهاد التقليديّ في مواكبة العصر. وتلتقي في هذه الفكرة آراء كثيرٍ من المسلمين التقدُّميّين، منذ جمال الدين الأفغانيّ، الأسدآبادي ومحمد إقبال اللاهوريّ وحتى المعاصرين، من أمثال: فضل الرحمن، محمد أركون، نصر حامد أبو زيد، عابد الجابريّ، عبد الكريم سروش ومحمد شبستري، الذين يمكن ضمُّهم في هذه البوتقة؛ إذ عمل كلٌّ منهم لإصلاح الفكر الإسلاميّ من وجهة نظره الخاصّة. الثقافة في النهاية ليست حصوناً نختبئ خلفها، بل أشرعة نُبحر بها. • كيف تتعامل مع الهجوم الشخصي على الكاتب، خاصة إذا تجاوز النقد إلى النيل من النوايا أو السمعة؟ ــ التغاضي لأنه لا يستحق الرد. الرد على الهجوم الشخصي يُضفي عليه شرعيةً زائفة. • ما النصيحة التي تقدمها للجيل الجديد من الكتّاب كي يحافظوا على حضورهم وثباتهم أمام العواصف الإعلامية؟ ــ نصيحتي بختصار لا تكن «مجرّد صوتٍ في الضجّة»لا تكتب في كل شيء، بل ابحث عن بصمتك الخاصة تعلّم الفرق بين «الشهرة» و»المصداقية» الشهرة تُبنى بلحظة،والمصداقية تُبنى بعقود غير أنها تبقى خالدة في الوجود. • في مقالك حول موضع المسجد الأقصى، طرحت قراءة مخالفة للرواية الشائعة.. ما المنهج البحثي الذي اعتمدت عليه في الوصول إلى هذه النتيجة؟ ــ عندما خالفتُ الرواية الشائعة حول موقع المسجد الأقصى في مقالي السابق، اعتمدتُ على منهجية بحثية متعددة المستويات، تجمع بين النقد التاريخي و التحليل النصي و الدراسات الأثرية ، مع الحرص على الموضوعية والابتعاد عن التأويلات الأيديولوجية. الاختلاف في التفسير ليس جريمة، بل هو ضرورة علمية، شرط أن يكون الهدف الوصول إلى الحقيقة، لا تعزيز الأوهام. هذه المنهجية ترفض التسليم بالمسلَّمات، لكنها ترفض أيضاً الانزلاق إلى التهوين من القداسة الرمزية للمسجد الأقصى في الوعي الإسلامي. • كيف ترد على من يقول إن هذا الطرح يخدم أجندات سياسية خارجية، حتى لو كان بحثياً في أصله؟ ــ أوضّح أن نقدي ليس إنكارًا لقدسية المسجد الأقصى في الإسلام، بل محاولة لفهم تاريخه بعيدًا عن الصراع السياسي الحالي. أذكر أن الرواية الصهيونية حول الهيكل مليئة بالثقوب الأثرية، وأن بعض المؤرخين اليهود (مثل شلومو ساند) كشفوا زيفها. الهدف إثبات أن بحثي ليس خدمةً لأجندة، بل تصحيحًا لأجندات أخرى مهيمنة. الإسلام نفسه يحث على طلب العلم (﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾)، حتى لو كان العلم مزعجًا. سؤالٌ أطرحه: - هل نرفض الحقائق لمجرد أن أعداءنا قد يستغلونها؟ - أم أن الأجدر بنا أن نتعامل معها بحكمة؟ • برأيك، ما الخط الفاصل بين “إعادة قراءة النصوص” و”زعزعة الثوابت” في الوعي الديني الجمعي؟ ــ العلاقة بين إعادة تفسير النصوص الدينية وهدم الثوابت علاقةٌ إشكالية تحتاج إلى ضوابط منهجية و تمييز دقيق ، خاصة في عصر تتداخل فيه الأدوار بين الباحثين والخطباء، وبين المفكرين والباحثين والمؤسسات الدينية. الخلط بين «الثوابت الدينية» و»الثوابت الثقافية» يعود لعدم تحرير المصطلح . فما يظنه البعض أنه ثابت ديني في كثير من الأحيان هو في الحقيقة عادات اجتماعية تكرست بفعل التاريخ (مثل بعض الممارسات في الزواج أو الميراث).أو استغلال الخطاب السياسي لبعض الجماعات التي تلبس عباءة الدين، المساحات الاجتهادية التاريخية لكل ما كان مرتبطًا بسياق تاريخي أو اجتهاد فقهي بشري . هنا تكون إعادة القراءة مشروعة بل ضرورية. مثال لذلك نقد مفهوم «الولاية المطلقة للرجل» في الفقه التقليدي عبر إعادة قراءة النصوص في ضوء السياق التاريخي. الشرعية المعرفية التي يدعو لها الدين لاتهدم الدين وإنما الخوف من أصحاب الأيدولوجيا الظلامية التي تشعر بتهديد وجودي عندما تتراجع هيمنتها التقليدية (مثل فقدان السلطة السياسية أو الدينية) أو عندما يتعرض رموزها أو مؤسساتها للنقد العلني (مثال: إصلاح التعليم ، محاسبة المؤسسات الدينية). لأن اعتماد الباحث على أدوات علمية رصينة (لسانيات، تاريخ، نقد نصي) لا يشكل خروجاً على الدين. .مثال ايجابي على ذلك ما انجزه الدكتور نصر حامد أبو زيد في تحليل الخطاب الديني، يعتبر فتح علمي في هذا المجال الذي الأمه في أحوج ما تكون إليه. نخلص إلى إعادة القراءة» مشروعة حين تُبنى على علمٍ رصين. تحترم الثوابت النصية. و تهدف لخدمة المجتمع لا تفكيكه. أما «زعزعة الثوابت» فهي قراءات استعراضية تفتقر للأدلة. تناقض المقاصد الكلية للدين. و تُستخدم كأداةٍ لصراعٍ أيديولوجي. • تصف الفقه بأنه “عمل إنساني” يحتاج إلى مراجعة وتجديد.. ما المعايير التي تقترحها لعملية التجديد هذه؟ ومن يملك حق القيام بها؟ ــ نعم الفقه الإسلامي، كمنتجٍ إنساني تاريخي، يتفاعل مع الواقع المتغير، وبالتالي فهو ليس نصاً مقدساً. التجديد هنا لا يعني تغيير النصوص، بل تطوير فهمنا لها لمواكبة روح العصر. لهذا يجب الاستفادة من العلوم الحديثة وإدخال مناهج النقد التاريخي و العلوم الاجتماعية (مثل علم النفس، القانون المقارن) لفهم النصوص بشكل أعمق والإستفادة من علم الهرمنيوطيقا الذي تعنى بممارسة تفسير النصوص، وتواجه معضلة أساسية في كيفية فهم وتأويل المعنى، خاصة في ظل اختلاف وجهات النظر والسياقات. التجديد الفقهي ليس “خروجاً عن الدين”، بل هو إعادة إحياء لروح الشريعة التي تهدف إلى تحقيق مصالح الناس. المعيار الأهم هو العدل والرحمة والمصلحة والمنفعة، وليس التقليد الأعمى. ورداً على سؤالكم “ما المعايير التي تقترحها لعملية التجديد ؟” تجديد الفقه ليس مجرد تعديل أحكام قديمة، بل هو إعادة بناء المنهجية الفقهية لضمان توافقها مع مقاصد الشريعة والواقع المعاصر. هذه عملية معقدة تحتاج إلى ضوابط دقيقة، إنّ أصول الفقه بحاجةٍ إلى نقدٍ ومراجعة عميقة، لا إصلاحٍ قِشْرِيّ. وإنّ احتواءها على مواضيع غنيّة ومباحث قيّمة لا ينبغي أن يلغي الحاجة إلى اجتهادٍ متواصل فعّال وناجع داخلَها. ويمكن في هذا السياق الاستلهام من الألسنيّة والهرمينوطيقيا والمقاربة التاريخيّة والفكر النقديّ. ومن المعايير الواجبة الالتزام مقاصد الشريعة الكبرى. العدل، والمساواة والرحمة، وأي تفسير أو تعديل يجب أن يحقق العدل، الرحمة، المصالح العامة، والمنفعة،قال تعالي “ليشهدوا منافع لهم وليطوفوا بالبيت العتيق”قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}** (المائدة: 87) وقوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185) أما من يملك حق القيام بها ؟ التجديد ليس حكراً على المؤسسات الدينية التقليدية، أو خرجي الكليات الدينية لأن الفقه اجتهاد بشري، لكن يشترط في المجددين ١-الفهم العميق للنصوص الشرعية. ٢-الإلمام بواقع العصر.٣-الابتعاد عن الأجندات السياسية أو المذهبية. • هل ترى أن الفقه التقليدي عاجز تماماً عن مواكبة العصر، أم أنه قابل للتطوير من داخله؟ ــ لا يمكن الحكم على الفقه التقليدي بـ”العجز المطلق”، لكنه يواجه أزمة منهجية تعيق تفاعله المرن مع مستجدات العصر. ويرى الدكتور محسن كدبور استاذ بجامعة الدراسات الإسلاميّة في قسم الأديان في جامعة Duke منذ العام 2009م “ إنّ إعادةَ هيكلة أصول الفقه (الاجتهاد في الأصول) مجرَّدُ قطعٍ لنصف مسافة الطريق نحو الاجتهاد البنيويّ، بينما يشكِّل النصفَ الآخرَ الاجتهادُ في الأُسُس، كالركائز الإيبستمولوجيّة، الأنطولوجية، الكونية، الأنثروبولوجيّة، الاجتماعية والنفسية والأخلاقية للإسلام. فالحاجة ماسّةٌ إلى نقد ذلك النمط من الفَهْم الذي يعود إلى القرون الوسطى، ولا سيَّما إذا علمنا أنّ كوسمولوجيا بطليموس كانت الطاغية على العلماء التقليديين طوال قرونٍ، بينما تمتاز كوسمولوجيا علماء المسلمين في العصر الحديث بالصبغة النيوكانْطية. ناهيك عن أنّ فكرة المساواة بين الجنسين، في ضوء أنثروبولوجيا علماء المسلمين التقليديّين، كانت مرفوضةً؛ نتيجة تبنّي أصل العدالة على أساس الاستحقاق الطبيعيّ، في حين يتبنّى علماء المسلمين في العصر الحديث فكرةَ العدالة على أساس المساواة بين الجنسين. من جهةٍ أخرى، يعتبر الاجتهاد التقليديّ الدين معيار التمايز في حقوق الشرائح الإنسانية المختلفة، بينما يتمتَّع البشر في الاجتهاد البنيويّ بحقوقٍ متساوية على أساس إنسانيّتهم نفسها، بغضّ النظر عن عقائدهم وأديانهم ومذاهبهم وتوجُّهاتهم الإيمانيّة.” • كيف نوازن بين ضرورة التجديد والحفاظ على المرجعية الشرعية التي تمنع الانفلات الفكري؟ ــ مصطلح المرجعية الدينية أو الشرعية مفهوم شيعي معناه رجوع المسلمين الشيعة إلى من بلغ رتبة الاجتهاد والأعلمية(الـمَرْجِع الدِّينِيِّ). المرجعيّة الشرعية أو الهيئات الدينية لا يجب أن تكون عائق أمام التجديد بل رافد من روافد التجديد لأن التجديد ليس انفلاتاً، بل هو إعادة اكتشاف لحكمة الشريعة في كل عصر ، و تطوير آليات الإجتهاد وإيجاد أصولية حديثة تناسب الزمن وآلياته ومفاهيمه . الانفلات الفكري لا تمنعه المرجعية الشرعية، التي لا تستطيع أن تقف بوجه أي نوع من أنواع الانفلات ،لأننا في عالم رقمي مفتوح. و إنما يكون من خلال تعزيز التعليم الديني القائم على الفهم العميق والواعي للدين وليس مجرد تلقي المعلومات.و تشجيع الحوار البنّاء الذي يتيح مناقشة الأفكار بحرية لكن باحترام وضوابط.و تعزيز الوعي الثقافي والديني في المجتمعات من خلال وسائل الإعلام والتعليم. والاهتمام بالتربية الأخلاقية. • في نقدك للأصولية الفقهية، ذكرت أنها قد تُنتج التشرذم بين المذاهب.. هل هذا يعني أن الخلاف المذهبي بالضرورة نتيجة طبيعية للأصولية؟ ــ الأصولية الفقهية ليست مشكلة حين تبقى أداةً لفهم النصوص، لكنها تصبح خطراً حين تتحول إلى أداة لهيمنة مذهب واحد. الخلاف القديم كان سياسياً-حياتياً في الأصل، لكن التصلب الفقهي والإيديولوجي هو الذي حوّله إلى انقسامات مذهبية دائمة. وذلك عندما تحوّلت المدارس الفكرية إلى هويات مغلقة (كاعتبار المذهب الفقهي جزءاً من العقيدة، أو ربط الفقه بالولاء السياسي كما في بعض الصراعات العباسية-الأموية). هذا التحول هو الذي أنتج التشرذم، وليس الأداة لفهم النصوص. • إذا تخلّينا عن الأصولية الفقهية، ما البديل الذي يمكن أن يحافظ على وحدة المرجعية مع استيعاب التنوع الفكري؟ ــ البديل الذي يمكن أن يحقِّق الوحدة في المرجعية مع استيعاب التنوع الفكري الاجتهاد البنيوي هو اجتهاد لا يكتفي بإعادة قراءة الأصول الفقهية، بل يعيد تشكيل الأسس الفلسفية والأنطولوجية للإسلام ذاته (كإعادة تعريف المفاهيم الكبرى: العدالة، الإنسان، الكون، الدين). والانتقال من “العدالة الاستحقاقية” (بناءً على الدين/الجنس) إلى “العدالة المساواتية” (بناءً على الإنسانية المشتركة).من خلال هذا البديل يتحرر الفكر الإسلامي من السجون المعرفية للعصور الوسطى (كالفهم البطلمي للكون، أو التراتبية الاجتماعية الثابتة). ليواكب التحولات الكبرى في الفلسفة والعلوم (كالنيوكانتية، والأنثروبولوجيا الحديثة). الإصلاح الأصولي مستوى الآليات التشريعية و تطوير أدوات الاجتهاد التقليدية (كالقياس، الاستحسان، المقاصد) لتكون قادرة على تنزيل المبادئ البنيوية الجديدة على الواقع. الخلاصة: الإسلام “نظام مقاصدي حيوي” لا يصح أن نعرفه من خلال “ أصولية” ولا “بنوية”، بل منهجية مرنة تجعل المقاصد (العدل، الإحسان) = القطب الثابت. أما المتغير المتحرك فهي الآليات التي نصل لها بعلم ومنهجية علمية منضبطة. هذا النموذج يتجاوز الجدل بين التراث والحداثة، لأنه يستعيد روح الإسلام الأولى(التي كانت تستوعب الواقع بذكاء)، ويطور أدواتها لعصرنا. • ألا تخشى أن يؤدي نقد الأصولية الفقهية بهذه الصورة إلى إضعاف سلطة النص لصالح التأويلات المفتوحة بلا ضوابط؟ ــ النقد الهادئ للأصولية الفقهية لا يعني هدم سلطة النص، بل تحريره من الجمود التأويلي الذي حوّله إلى نصٍّ مُتحجِّر بدلاً من كونه خطاباً حياً . النقد ليس عدو النص، بل عدو الجمود النقد الواعي للأصولية الفقهية يُحرِّر النص من سجن القراءة الواحدة. و يُعيد التوازن بين ثبات النص و حركة الواقع. و يحمي الدين من أن يصير أيديولوجيا بشرية تتلاعب به الأهواء. الخوف ليس من تعدد التأويلات، بل من الجمود، يقول ابن رشد: “الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له”. • هذه الطروحات ووجهات النظر قد تعرّض صاحبها لعاصفة من النقد وربما الهجوم الشخصي.. ما الذي يدفعك للاستمرار في طرحها رغم كلفة المواجهة؟ ــ الذي يدفعني للاستمرار رغم العواصف هو اليقين بأن الكلمة الحقّة لا تموت، حتى لو هاجمها الجميع. الحقيقة التي تدفعني، وإيماني العميق بأن التجديد الفكري ليس ترفًا، بل مسؤولية أخلاقية ودينية. كما أنني أؤمن بأن أخطر ما في الدين ليس من يهاجمه، بل من يحجره في زمن لم يعد موجودًا. التجديد ليس خيانةً للتراث، بل إنقاذًا له. الاختلاف ليس ضعفًا، بل غنىً . كما قال الشيخ محمد عبده “أنا أبحث عن الحق لأتبعَه، لا عن التابعين لأقفوَ آثارهم”. • ما تقييمك لمستوى الجدل الديني والفكري في الإعلام السعودي اليوم؟ هل هو ناضج بما يكفي لتلقي هذه الأفكار؟ ــ يُمكن وصف الوضع الحالي بأنه في مرحلة انتقالية ، حيث توجد بذور ناضجة للجدل الفكري، لكنها لا تزال تواجه تحديات كبيرة في العمق والتقبُّل. • هل البيئة جاهزة لتلقّي الأفكار التجديدية؟ ــ نعم، لكن بشروط: تقديم الأفكار بلغة غير تصادمية (حتى لو اختلفت مع التفسيرات السائدة). كذلك تجنَّب التغريب المفرط. • كيف تتصور مستقبل النقاش الديني والفكري في المملكة في ظل التحولات الاجتماعية والثقافية التي نعيشها؟ ــ تحولات كبرى قادمة لا محالة من الفقه الجزئي إلى المقاصد الكلية . سيتراجع الجدل حول التفاصيل الفقهية (كاللباس والأذان) لصالح نقاشات أعمق حول العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة في إطار القيم الإسلامية. من الأحادية إلى التعددية ستتسع مساحة قبول التعدديات الفكرية داخل الإطار الوطني، مع الحفاظ على الهوية . نعم سيكون هناك تحولات نوعية من الحرفية إلى المرونة و انتقال النقاش من التركيز على التطبيقات الحرفية للنصوص إلى فهم أكثر ديناميكية للشريعة في سياق العصر. المستقبل يحمل فرصة تاريخية لولادة نموذج سعودي فريد يجمع بين: - الأصالة الدينية - الحداثة الفكرية - الحكمة السياسية بشرط أن نتعامل مع هذا التحول كـ”عملية جراحية دقيقة” تحتاج إلى: - شجاعة في الطرح - حكمة في التطبيق - صبر على النتائج وكما قيل “التغيير ليس خياراً، لكن كيفية إدارته فنٌ يحتاج إلى حكمة الأسلاف وجرأة الأبناء”. • علمنا أنك في بداياتك كنت متشدداً دينياً، فهل هذا يفسر التحول التي طرأ عليك إذ انتقلت إلى أقصى ما هو عكس التشدد خاصة في طروحاتك الأخيرة؟ ــ الحمدلله لم أكن في يوم من الأيام متشدداً فقد نشأت في أسرة فيها علماء و رجال دولة مثقفة ثقافة إسلامية تؤمن بالتسامح وتحترم الإختلاف والتنوع. و خلال فترة الدراسة ظهر تيار يدعو إلى العودة للماضي المتصور لديهم بقراءة أحادية تأثرت بها بعض من الوقت نتيجة عوامل عديدة . أنا لا أرى نفسي في “الضدية”، بل في الانزياح عن المركزية الدينوية (التي تجعل الدين أيديولوجيا للسيطرة). وما أطرحه الآن هو استعادةٌ لروحه الأصيلة قبل أن تحتجزه القراءات المتشددة. ان الإسلام أكبر من أن يُحتكر بفهمٍ واحد. يمكن أن أطلق على عنوان “رحلتي من الحرفية إلى السياقية. انتقال النقاش من التطبيقات النصية الصارمة إلى فهم ديناميكي يراعي سياقات العصر ومتغيراته. من الأحادية إلى التعددية الواعيةو تطور تقبل التعدد في القراءات الدينية مع الحفاظ على أطر مرجعية واضحة. • كتابان لك صدرا أخيراً: الجاهلية الحديثة، وكيف نخطو الى المستقبل.. ماذا أردت أن تقول فيهما، لا سيما “الجاهلية الحديثة”؟ ــ في كتابي “الجاهلية الحديثة”و”كيف نخطو إلى المستقبل”، أحاول تشريح أزمات العقل المسلم المعاصر ورسم خارطة طريق للخروج من حالة الجمود والتيه التي تعيشها الأمة، مع تقديم رؤية تجمع بين الأصالة والحداثة. رؤية للخروج من الأزمة والجمود الفكري من خلال عملية إصلاح التعليم ليواكب العصر وإعادة كتابة تأريخنا ، التاريخ ليس مجرد أحداث مضت، بل هو هوية وشاهد على الحق. وإذا كنا سنسمح للآخرين بكتابة تاريخنا نيابة عنا، فكأننا نتنازل عن جزء من روحنا وهويتنا ومستقبلنا. وضرورة الحرص على العلوم العصرية (الذكاء الاصطناعي، البيولوجيا، الفلسفة النقدية). وفقه الأولويات بالتركيز على قضايا العدل والتنمية بدل الخلافات المذهبية. وأهمية الاجتهاد المؤسسي والحاجة إلى إنشاء مراكز بحثية تجمع بين رجال الفكر و العلماء والمتخصصين في العلوم الحديثة. وضرورة إعادة صياغة الخطاب الديني والانتقال من خطاب التخويف إلى خطاب “التكريم الإلهي للإنسان” (كما في قوله تعالى: *وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ*). الكتاب يميز بين “الحضارة الغربية” (بإنجازاتها العلمية التي يمكن الاستفادة منها) و”المشروع الغربي” (الذي يسعى لفرض قيمه كنموذج وحيد للعالم). هذان الكتابان ليسا دعوة لرفض التراث أو تبني الغرب، بل هما محاولة لاستعادة الروح القرآنية (التي تجمع بين العقل والقلب). ونحو بناء نموذج حضاري إسلامي يتعامل مع العالم بلغة العصر، دون ذوبان أو انكفاء.