إطلالة في رواية (مسرى الغرانيق في مدن العقيق ) لأميمة الخميس..
رؤية معرفيّة فلسفيّة في إطارٍ جماليٍّ وحسٍّ تاريخيٍّ تتقرّى تضاريس العقل العربي في أنساقه الظاهرة و المضمرة.

عُرفت الروائية أميمة الخميس بحضورها الوطيد في الساحة الأدبية ، معبّرةً عن رؤىً عميقة ، بوصفها صوتاً أدبيّا مُلتزما بقضايا المرأة والمجتمع والفكر بأسلوبها السرديّ الحافل بالعلامات والدلالات والإمكانات التأويلية الذي يجمع بين البحث في التراث العربي والإسلامي من جهة، وبين الانشغال بالأسئلة الوجوديّة والفكريّة من جهة أخرى؛ فأعمالها الروائية تنفتح على التاريخ والفكر والفلسفة، وفيها توظيف للرمز والأسطورة. ومن أهم أعمالها الروائية الوارفة التي صدرت عام 1998 وقد تناولت فيها قضايا المرأة السعودية وتطلعاتها، وحازت على اهتمام نقدي واسع، أما روايتها (مسرى الغرانيق في مدن العقييق) تُعَدّ من أهم رواياتها وأكثرها إثارة للاهتمام فقد فازت بجائزة (نجيب محفوظ للرواية العربية) من الجامعة الأمريكية بالقاهرة فهي تمزج بين التأمل الفلسفي في الوجود والبحث في المعنى بلغة شعرية رمزية، وقد رأيت أن أتوقف عند روايتها (مسرى الغرانيق في مدن العقييق) التي صدرت عام 2018 وهي رواية ضخمة تقع فيما يقارب خمسين وخمسمئة صفحة ، ممّا يجعل مقاربتها في هذا الحيّز الضيق المتاح مهمة صعبة ، وللغرانيق معان كثيرة أهمها الطيور المرفوعة في السماء، وهو المعنى الذي ينسجم مع ما ورد في سياقات متعددة ومنها قصة الغرانيق التي عرض لها بعض كتاب السيرة النبوية، و كلمة الغرانيق لها دلالات إيحائية أساسية: تهمّنا في قراءتنا لهذه الرواية إيجابية: الجمال – البياض – الرفعة – الطير المحلّق وأخرى سلبية: التصاقها بقصة الغرانيق (الآيات الشيطانية)و رمزية استدعائها في الأدب والفكر رمزًا للتحليق الملتبس أو (للأسطورة المقدَّسة المرفوضة عقيدة وشرعاً) و اللافت قبلها كلمة المسرى ذات الإشارة الدينية المتعلقة بالإسراء و المعراج وتحمل إشارة قُدسية ذات بعد معرفي ؛أما العقيق فلها إيحاءاتها في النصوص التراثية و الحديثة ؛ و يمكن تلخيصها في دلالتها على الوادي المبارك و مكان اللقاء والخصوبة والمعرفة رمز الغزل والفقد، فضلاً عن الدلالة اللونية و المادية النفيسة بما تشير إليه من معنيين متناقضين الدم و الذهب والإشارة المكانية (وادي العقيق).و هي أيضا حجر كريم للزينة والبركة و رمز للقلب الصافي ورمز للهوية والذاكرة والأصالة و استدعاء أدبي للشجن والحنين وانطلاقاً من هذه المعاني يمكننا أن ننطلق في مقاربة هذا العمل الروائي المتميز. وربما كانت العتبة الأولى لقراءة هذا النص الروائي ممثلة في العنوان حيث تبين الصلة بينه وبين أدب الرحلة في تمظهُره السّردي ؛ وتميّزه – في الوقت ذاته - عن التقاليد المعروفة لهذا النوع الأدبي ؛فالرواية تتناول رحلة فكرية بين مدن ومراكز ثقافيّة في الحضارة الإسلامية (الأندلس، بغداد، القاهرة، الجزيرة العربية)، وتطرح جملة من الأسئلة المتعلقة بالعقل والسلطة والدين والتنوير وبالتاليف فإن ثمة توازيا بين معنى الرحلة بمفهومها المادي و المعنوي ، فهي استكشاف لأنساق الثقافة العربية وهذا ما يدل عليه الإهداء لمحمد عابد الجابري واهتمامه بتكوين العقل العربي وسماته ، وقد بدا واضحا أن الكاتبة في إشارتها إلى (تاجر الكتب) - البطل الذي أخذ على عاتقه مهمة غالبية السرد، فهو الراوي الرئيس المشارك - كانت تريد أن تنطلق من بؤرة معرفيّة محايدة تنفتح على الاتجاهات الفكرية كافة . الثيمة الرئيسة في هذه الرواية تتمثّل في استكشاف ملامح الحضارة الإسلامية عبر رحلة تنطوي على مغامرة روحيّة وعقلية تستعيد أجواء حقبة مهمة في تاريخ العالم الإسلامي، وتستحضر حواريّة العقل والسلطة والدين وربما كانت الكاتبة تسعى من خلالها إلى إعادة قراءة تاريخ الفكر العربي والإسلامي في لحظة ازدهاره وانكساره، وتربط ذلك بالمرحلة الراهنة رغبة في إلقاء الضوء عبر الاسقاط الدلالي للماضي على الحاضر ؛فبطل الرواية وهو ابن شرف العقيقي، الذي ينطلق في رحلة طويلة من جزيرة العرب (مدن العقيق) متنقلاً بين بغداد، دمشق، القاهرة، الأندلس، باحثًا عن العلم والمعرفة والحكمة، وهنا لابد من استعادة لفظة العقيق بإيحاءاتها التي أشرت إليها من قبل ( الخصوبة و الازدهار ونقيضها) إشارة إلى البدايات و المآلات ، والرحلة ليست جغرافية فقط، بل هي أيضًا رحلة عقلية وروحية، إذ يلتقي البطل بعدد من المفكرين والعلماء والمتصوفة، و يتعرف عن قرب إلى التيارات الفكرية المتصارعة في ذلك العصر؛ فضلا عن ذلك فإن الرواية تلتقط ظواهر التوتر بين التيارات العقلانية (المعتزلة، الفلاسفة) والتيارات النقلية (الفقهاء والسلطات الدينية) وما نشأ عن هذا التوتر من صراع حضاري أثّر على مسار الحضارة العربية ؛ فبطل الرواية يصور الحصار المفروض على العقل العربي وإلزامه بالاتجاه المطلوب، وكيف تحوّلت مراكز التنوير إلى ساحات للخوف والرقابة، فيسعى لتدوين مشاهداته وتجاربه كنوع من الشهادة التاريخية. وقد رمزت الكاتبة إلى ذروة التقدم والعُلُو بالغرانيق ،كذلك فيما يتعلق بمدن العقيق فقد أشارت بها إلى الجزيرة العربية وانطلاقتها الحضارية وانفتاحها على تراث الأمم ، والرحلة تمثل مسار البحث عن التنوير مقابل قيود الاستبداد السياسي والديني، وقد تميزت لغة الرواية بسماتها الأسلوبية الشعرية ودلالاتها الفلسفية، ومزاوجتها بين السرد الروائي والأسلوب الحكائي التراثي واعتمدت جماليات السّرد الرِّحلي وملامحه الوصفيّة، وعملت على استحضار المدن بوصفها رموزاً للمعرفة والحضارة. وقد مزجت بين وقائع التاريخ والخيال، بحيث تصوغ رؤية نقدية للحاضر عبر مرآة الماضي. وقد عمدت إلى وضع العقل مقابل النقل بقصد البحث عن دور الفكر الحرّ في بناء الحضارة؛ ولعلها أرادت أن تستحضر مقولات (ميشيل فوكو) عن علاقة الخطاب بالسلطة لتبيّّن كيف تُقمع الأفكار التنويريّة حين تُهدّد المصالح، وفيها إشارة ضمنيّة إلى الانفتاح على التنوع الفكري والثقافي ، ويتجلّى فيها حضور المرأة بشكل رمزي ضمن معركة التحرّر الفكري والإنساني، ولعله من نافلة القول الإشارة إلى تاريخ موازٍ للحضارة الإسلامية، من زاوية الفكر والحرية؛ فثمة إسقاطات واضحة فيها مساءلة عن الحاضر العربي والإسلامي من خلال العودة إلى ما أسماه البعض بنقاط الانكسار التاريخي. ولعله من المفيد الإشارة إلى ماتمثله مدن العقيق في الرواية عبر هذه السردية الرحلية فهي (البداية) الانطلاقة للبحث عن المعرفة، وبغداد تمثل فضاء اللقاء بين الفلاسفة والمعتزلة ، حيث صراع العقل والنقل ، ودمشق حيث “التوتر بين السلطة الدينية والسياسية و “القاهرة” مركز العلم والأزهر والتصوف و”الأندلس ذروة الحضارة الإسلامية والتسامح الفكري”, وفي اختياره للشخصيات بدا واضحاً أن الكاتبة قصدت إلى أسماء بعينها دالة على التكوين الفكري لأصحابها وهدفهم ودورهم في هذا العمل الروائي ؛ فمزيد الحنفي (البطل) الراوي والرحّالة الباحث عن المعرفة ؛ تشير إلى الاستزادة من العلم و المعرفة التي كان يسعى إليها في رحلاته ،وهو يمثل العقل المفكّر الساعي للحرية والبحث عن الحقيقة، ويواجه الصراع بين العقل والنقل يتنقل بين المذاهب الفكرية، يعيش التناقضات التي تعكس تاريخ الحضارة الإسلامية؛ أما الغرانيق فكما سبق أن أشرت فهي الطيور التي تسعى للعلو لكنها قد تُكسر أجنحتها؛ أما الشخصيات النسائية فهي ذات بعد رمزي في مسار البطل (حبيبة، مؤنسة، أو نساء يلتقي بهن في الرحلة) رمز للحرية المفقودة، والجانب الإنساني الحالم مقابل قسوة السلطة والفكر المغلق. وهذا الحضور يجسّد العلاقة بين المرأة والمعرفة بوصفها مساحة مقموعة في المجتمع. أما فيما يتعلق بالشخصيات الاعتبارية ، مثل علماء المعتزلة والفلاسفة والمتصوفة الذين يلتقي بهم البطل في بغداد ودمشق والقاهرة فهم يمثلون تنوع الفكر الإسلامي: تيارات عقلانية مقابل تيارات تقليدية متشددة ،بعضهم يدعم البحث عن الحقيقة، وبعضهم يكرّس سلطة النقل والجمود و يمثل صراع المدارس الفكرية و يعكس معركة العقل في مواجهة الرقابة والاستبداد. وأما الطبقة الحاكمة أصحاب السلطة من الحكّام و الأمراء فلهم حضور غير مباشر لكنه مؤثر جدًا؛ إذ يمثلون القوة السياسية التي تتحالف مع السلطة الدينية لقمع الفكر الحر ويرمزون إلى الاستبداد، وتقييد حرية المفكرين ويظهَرون كمحرّك خلفي لصراع الأفكار عبر سجن العلماء أو نفيهم. و قافلة الأقباط تجسد التعدديّة والتسامح؛ فالبطل يرى نموذجًا آخر للتعايش الديني تمنحه فرصة لاكتشاف الوجه الإنساني للتاريخ بعيدًا عن سلطة الفقهاء. والشخصيات في الرواية – على وجه الإجمال- أقرب إلى أن تكون رموزاً فكرية منها إلى شخصيات تقليدية من لحم ودم،وقد عمدت أميمة الخميس في بنائها للشخصيات إلى تقنية “الأقنعة” فالشخصيات تمثل تيارات فكرية (معتزلة، فقهاء، متصوفة، مفكرين أحرار) أكثر مما تمثل أفرادًاً منفردين، والبطل يمثّل رحلة العقل، بينما الآخرون يجسدون القوى التي تدعمه أو تقمعه. أما الفضاء المكاني فتمثله مدن (العقيق، بغداد، دمشق، القاهرة، الأندلس) وهي ليست مجرد أماكن، بل شخصيات رمزية تحمل خصائصها ؛فالعقيق توميء إلى البداية، الطفولة، البراءة الأولى و بغداد: ساحة الصراع بين المدارس الفكرية (العقل/النقل)، ودمشق: ثقل السلطة وتحالفها مع رجال الدين. والقاهرة ، التصوف، والانفتاح النسبي. والأندلس: الذروة الحضارية، لكن أيضًا بداية الانكسار. و تعددت فيها الأصوات في حوارية فكرية : صوت مزيد الحنفي الباحث الحر عن المعرفة، وهو يمثل رؤيةعقلانية وجودية وأصوات العلماء والفلاسفة: كل شخصية تحمل رؤية فكرية خاصة (المعتزلة، الفلاسفة، المتصوفة، الفقهاء)و صوت السلطة: يتمثل في خطاب القضاة والأمراء، وهو صوت مهيمن يحاول فرض أحادية الحقيقة. وأصوات هامشية ،مثل قافلة الأقباط، أصوات النساء، التي تقدم خطابًا مغايرًا يثري الحوار.كما تعددت اللغات : الدينية الفقهية (الآمر) المتشدد ولغة فلسفية عقلانيةمرتبطة بأصوات المعتزلة والفلاسفةولغة صوفية رمزية في القاهرة والأزهرلغة يومية/واقعية: تظهر في الحوارات مع العامة، التجار، الرحالة ولغةشعرية رمزية في سرد الراوي وأوصافه للرحلة والمدن. مجرد إطلالة تلم ببعض خصائص هذه الرواية التي تستحق دراسة موسعة تلم بأبعادها الرؤيوية و الجمالية.