طرح معاصر لمفهوم الحِسبة الاقتصادية.

يتباين أداء دول العالم في تجاربها الفعلية مع تطبيقات النظام الاشتراكي التي مرت بها سواءً في الاتحاد السوفيتي قبل انهياره أو الصين قبل وبعد الإصلاحات الاقتصادية، وأيضاً ممارسة النظام الرأسمالي عملياً في الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا بما في ذلك الدول الإسكندنافية. وبعد مرور العالم بأزمات اقتصادية متتالية وقاسية في العقود الأخيرة بدأت الشعوب في هذه الدول (وغيرها) بتقبل أكبر للتدخل الحكومي في الاقتصاد والأسواق، سواءً من خلال السياسات النقدية والمالية والتجارية أوحتى التشريعات الاقتصادية Economic Regulations. لقد عجزت النظم الاشتراكية بتعطيلها لقوى السوق، وتجاهلها الدوافع الذاتية للأفراد، وحوافز الملكية الخاصة عن النجاح في تخصيص الموارد الاقتصادية بكفاءة باستخدام التخطيط المركزي. بالمقابل، عجزت الرأسمالية القائمة على الإيمان المفرط في كفاءة الأسواق، وقدرتها على تحقيق مصالح جميع الأطراف بدون احتكارات، وحدوث تفاوت فاحش في الثروات وأزمات اقتصادية متكررة. لذا، لا غرابة أن نجد أن الأنظمة السائدة حالياً يمكن وصفها بأنها نظم اقتصادية مختلطة، ولكن بمستويات متباينة فيما بينها، كما أن الحجم الأمثل للحكومة في الاقتصاد كما يقيسه الاقتصاديون تختلف نسبته من دولة إلى أخرى حسب ظروفها التنموية والسياسية. أما في الاقتصاد الإسلامي والذي بطبيعته اقتصاد مختلط فدور الحكومة المالي (بالذات) ليس محدود التأثير في النشاط الاقتصادي، كما أنه في نفس الوقت ليس تدخلاً شمولياً، بل يتضمن كجزء مبني فيه مؤسسات تنظيمية ورقابية هدفها حماية المنافسة في الأسواق، ومواجهة الأزمات بما لا يتعارض مع المصالح العامة. وهكذا فالتدخل الحكومي في الاقتصاد بهذا المستوى مفترض تواجده ومقبول من حيث الأصل، لأنه محدد وينطلق من مبدأ الوسطية، وهدفه ضمان عمل الأسواق بكفاءة، مع عدم الإضرار بحرية الملكية الخاصة مع تحقيق العدالة. وفي هذا الإطار يظهر مصطلح «الحِسبة الاقتصادية» أو «اقتصاد الحِسبة» من بعض الكتاب المتخصصين، باعتباره نوع من التدخل الحكومي الضروري في النشاط الاقتصادي من خلال الرقابة على أداء الأسواق، وسن التشريعات المؤثرة. وتُعد الحِسبة الاقتصادية ولاية شرعية بيد ولي الأمر يختار لها من يراه كفؤاً، كما أنها تشبه وظيفياً مهام رئيس البلدية، ومدير الإعاشة مع التركيز على مراقبة الأسواق، وبالذات أسواق السلع الضرورية. ابن خلدون ودور «السلطان» في الاقتصاد لا يمكن التطرق للتدخل الحكومي في نشاطات الاقتصاد عموماً، وألية عمل الأسواق تحديداً من دون مناقشة إسهامات المفكر ابن خلدون، والذي له رأي مهم لم يلقَ نصيبه من الانتباه يتمثّل في نظرة إيجابية للتدخل الحكومي (تُعد بمثابة «نظرة كينزية») من خلال الانفاق العام، فهو يرى أن «عطاء السلطان» من بيت المال له دور تحفيزي ملموس على النشاط الاقتصادي. أما بالنسبة لمهمة الحِسبة الاقتصادية، فيعتبرها ابن خلدون بمثابة إحدى الوظائف الشرعية للحاكم، ولكن لا يمكن فصل موقفه منها عن نظرته المعروفة، وحذره من التدخل المباشر في آلية الأسواق وعملها. فابن خلدون يرى أن للحكومات دوراً في الاقتصاد وفق ما يحقق المصالح العامة من دون أن يلحق ضرراً في المصالح الخاصة، ولكنه في نطاق ضيق ومحسوب، ويهدف لنشر الانصاف بين الناس، وحثهم على العمل المنتج المبني على التخصص، مع قيام الحكومة بدورها الرقابي والتشريعي. دور الحِسبة الاقتصادية في ضبط الأسواق أولى الإسلام اهتماماً بالغاً في دور التجارة في الحياة، ومؤسسة السوق باعتبارهما من ركائز اقتصاد الدولة والمجتمع، وتقوم عليهما معاش الناس، على أن يتم ذلك وفقاً لأسس صحيحة تحميها منظومة رقابية مبنية على قواعد وتشريعات سليمة. ولقد تمثّلت أبرز مظاهر هذا الاهتمام في جوانب مختلفة من الفقه في نطاق أحكام التجارة، وما يتعلق بها من عقود المعاملات وأنواعها. كانت العناية بالأسواق أمراً مهماً منذ صدر الإسلام، وهذا انعكس على إعطاء الأسواق دوراً مهماً في التنمية الاقتصادية، وفي الوقت ذاته قيام هذه الأسواق وتعاملاتها التجارية على أسس صائبة خالية من الغش، مما يقلل الحاجة للرقابة والقيود المبالغ فيها. ولذا كانت الحِسبة الاقتصادية أداة مؤسساتية لمتابعة عمل السوق ومعاقبة السلوكيات الخاطئة الهادفة للإضرار بالآخرين، أو بسبب الجشع أو الغرر وعدم معرفة أخلاقيات التجارة، والمنافسة الشريفة. تجدر الإشارة إلى أنه إذا ما قارنا وظيفة الحِسبة في الماضي مع زمننا الحاضر فسوف نلاحظ وجود عدد من التطورات التي أثرت على طبيعتها، ومنها أن أغلب هذه الوظائف تؤديها حالياً الوزارات والهيئات الحكومية، حيث أوكلت الدولة العصرية وظائف الحِسبة إلى عدد من مؤسساتها الرسمية بسبب توسع المهام وتشعبها. بالإضافة لذلك، توجد قيود إدارية حديثة تحد من اجتهاد «العامل على السوق»، والذي كان تاريخياً يؤدي بعض المهمات القضائية والتنفيذية؛ وهذا يُمثِّل نقلة مؤسساتية في المرجعية التنظيمية، ولتكون الحِسبة الاقتصادية خاضعة للأوامر من صاحب السُلطة. لذا، فإن المقارنة الصحيحة يجب أن تكون بين وظيفة الحِسبة، وبين الوظائف الرقابية المشابهة لها حالياً مثل هيئات الرقابة والمحاسبة، والهيئات التنظيمية للأسواق التي تحتاجها لضمان عملها بكفاءة. نطاق الحِسبة الاقتصادية هنالك اتفاق على أهمية وظيفة الحِسبة الاقتصادية في حماية نزاهة الأسواق، وضمان عدالة المعاملات في مختلف المجالات، والأعمال التي تشملها هذه الوظيفة. ونتيجة لذلك برزت المكانة الرقابية للحِسبة في عدة ميادين منها: ضبط الأسواق، والمعاملات المرتبطة بها، ومراقبة كفاءة القيام بالمهن والحرف، ومراقبة الالتزام بمقاييس الجودة، ومواصفات السلامة، وغيرها. ويمكن حصر بعض المعاملات التي تعنى بها مؤسسة الحِسبة سواءً في الماضي أو المعاصر بشكلها المتطور، فيما يلي: 1) منع النجش والغرر وتدليس الأثمان بما في ذلك ما حرم الشرع تبادله حتى مع تراضي المتعاقدين عليه، وكذلك منع الممارسات التسويقية المضللة في الأسواق ضماناً لعرض السلعة بأمانة وصدق، ليتمكن الجميع من الشراء من دون تلاعب في الأسعار. 2) منع المعلومات الداخلية الخاصةinsider-information وهذا قريب لما نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد»، مما يُعد إجراءً ضرورياً يُسهم في خلق مناخ المنافسة الشريفة في السوق الذي تتساوى فيه الفرص بين المتعاملين، كما يحد من دخول الوسطاء الذين يرفعون السعر النهائي للسلعة. 3) الرقابة الأخلاقية في السوق، حيث أن هناك آدابٌ عامة للسوق وللمتاجرة تتطلب وجود تعاون بين «صاحب السوق»، مع ما يسمى «ضامن السوق» أو شيخ السوق لصنعة ما، أو حرفة معينة وهو الذي يضع معايير رقابة ذاتية Self-regulation على ممارسات أصحاب الحرفة. هذا التنسيق بين جهاز الرقابة الرسمي وبين القائمين على السوق يمارس فعلاً في زمننا الحاضر، بما يعرف بالتنظيم الثنائيCoregulation، والذي يُعنى بتقريب وجهات النظر بين الهيئات التنظيمية والمتعاملين المحترفين في الأسواق. الحِسبة الاقتصادية وتحديد الأسعار يدل تاريخ الحِسبة الاقتصادية على تضمنها لمهام عديدة، لكنها امتدت لاحقاً لتشمل مهام أخرى مثل تحديد أسعار بعض السلع الضرورية للناس كالحبوب، والخبز والمؤن. نظراً لأن تقييد المكاسب التي يجنيها التجار الجشعون يلقى قبولاً من فئات واسعة من المجتمع، فإن تحديد الأسعار أصبح من المهام المناطة بالقائمين على مراقبة الأسواق. ونظراً لأن التسعير فيه عنصر الإلزام، والإجبار على البائعين من خلال تحديد سعر معين، فقد يكون له تداعيات اقتصادية طويلة أجل على الكفاءة الاقتصادية وعلى مستوى الرفاه الاجتماعي مما يتطلب أن يكون التسعير مبرر بالمصلحة العامة وفي الأجل القصير، كما يحال إلى ولي الأمر لتقييمه والفصل فيه. وبالرغم من أن الحاكم قد يلجأ كإجراء أدبي أولي بتحذير التجار إلا أن هناك مدخلاً فقهياً يتيح له بشكل مباشر أو من يوليه كمحتسب باستخدام آلية «تحديد الأسعار» بهدف معاقبة المحتكرين الذين يرفعونها بدون مبرر. وفي هذا الشأن يمكن الاهتداء بأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- واجتهاد الصحابة -رضوان الله عليهم- في الموازنة بين تسعير السلع، وبين تركها لآلية السوق. كما يُذكر أن أحد الخلفاء العباسيين قد أمر عندما ارتفعت أسعار الطعام كثيراً بفتح المخازن لديه، وبيع ما فيها بأقل مما يبيع به التجار، حتى تعود الأسعار إلى المستوى الذي يقدره صاحب السوق. ختاماً.. يجدر بنا الاستنارة باستعراض مستفيض للدكتور محمد الفوزان (في كتابه نظام المنافسة في المملكة العربية السعودية، 2015م) للآراء الفقهية المتباينة من تحديد الأسعار، والذي يرجح الرأي القائم على أن التسعير جائز عندما توجد حاجة ماسة (مؤقتة) مثل حالة احتكار أقوات الناس الضرورية وغيرها من الاساسيات، ولكن تحديد درجة الحاجة يكون وفق ظروف كل عصر ومجتمع. كما يشترط في التدخل وجود خللاً كبيراً في بنية الأسواق والأسعار بسبب عوامل مصطنعة، وبالتالي يكون التدخل مبرراً وبطرق مدروسة من المتخصصين من أجل الحد من مسببات الخلل الهيكلي في السوق والغلاء المقصود في الأسعار، ومظاهر الغبن الفاحش. * نائب رئيس جمعية الاقتصاد السعودية