حضرة المكتوبجي.
اتّفق مُعظم المؤرّخين على أن الرقابة على الإنتاج الفكري ارتبطت بالطباعة، أي منذ اختراع “يوحنا جوتنبرج” لآلة الطباعة بالحروف المعدنية في عام 1436، مما ساعد على انتشار هذا الإنتاج. ومن هُنا ساعدت الطباعة على سهولة عمليات الاتصال والحصول على المعرفة والتعبير عما يجيش بفكر الإنسان، فكان لزاماً على المجتمعات أن تضع حدوداً لهذه الحريّة في التعبير، فانتشرت ظاهرة الرقابة على الكُتب والصُّحف في أوروبا منذ القرن السادس عشر. وترتبط الرقابة على الإنتاج الفكري في أي دولة دائماً بمقدار حريّة التعبير التي تسمح بها الأنظمة القائمة، فحُريّة التعبير مثلها مثل أيّ حُريّة، لا بدّ أن يكون لها حدوداً، فلا توجد حُريّة مُطلَقة ما دام الإنسان يعيش وسط المجتمع، أي لا يعيش معزولاً بمُفرده، بل يعيش مع أفراد آخرين وجماعات لا بدّ أن يُراعى فيها حُريّتهم كذلك. وقد عاشت الصحافة العربية منذ نشأتها في ظِلّ تنظيمات وتشريعات خاصّة وضعتها السُّلطات العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، حيث صدر أول تنظيم لشئون الصحافة، وشروط ترخيص إصدار الصُّحف، ونظام الرقابة على الصُّحف في جميع الولايات التابعة للدولة العثمانية. وكان يُطلَق على رقيب المطبوعات: “المكتوبجي” حسب تسمية اللغة الرسمية للدولة العثمانية؛ وهي لفظة تركية تُشير إلى المهنة التي تُعنى بمراجعة ومراقبة كلّ ما هو مكتوب ومنشور بين الناس، ولذلك كان الصحفيون والأدباء والشّعراء الحالمون بحُريّة الكلمة يُسمّونه: “شُرطيّ الفِكر”! ولقد كان للمكتوبجي مواقف عجيبة غريبة وغير معقولة، وصلتْ إلى حدّ دفع الكاتب الشامي “سليم سركيس” لأن يؤلّف عنها كتاباً كاملاً أصدره في “بيروت” في عام 1896، بعنوان “غرائب المكتوبجي”. وفي هذا الكتاب، نقرأ مثلاً أن مُحرّر الجريدة لا يجوز له أن يذكر كلمة “الجمهور” في كتاباته، بل يجب أن يقول “الشعب” أو “القوم”.. ففي الإعلانات يُقال عادةً: “نُعلن لحضرة الجمهور..”، فيحذفها المكتوبجي ويضع محلّها: “نُعلن لحضرة الشعب”، وذلك خوفاً من انشغال أفكار الناس بالجمهورية والمَيل إليها! وعندما نشرتْ جريدة “الأحوال” البيروتية خبر قدوم الوجيه “الياس الباشا” من “زحلة” إلى “بيروت”، تدخّل المكتوبجي فغيّر اسمه في الجريدة إلى “الياس الباشه”، لئلا يظُنّ الناس بأنه يحمل رُتبة الباشوية.. ومن حُسن حظّ هذا الوجيه أن المكتوبجي لم يُسمّه “بالياس الباجة”، والباجة: أكلةٌ عراقية شعبية تتكوّن من رأس الخروف المسلوق وأرجله “الكوارع” والكرش المحشوّة بالأرز والبهارات! ويستمرّ المكتوبجي في سقطاته، حين استبدل لفظ “مدراس” إلى “مكاتب”، في مقالة تتحدّث عن مدينة هندية تُدعى “مدراس”، ظَنّ الرّجل أن المقصود بها “مدارس”: أي جمع مدرسة، وكان بطبعه يكره المدارس والتعليم. وذات يومٍ أصدر المكتوبجي أمره إلى الصّحف قائلاً: لا يُعطى لقب صاحب العظَمة إلا للسلطان العثماني، أما بقيّة الأباطرة والسلاطين في العالم فيُعطى لهُم لقب: “حشمتلو”، وهكذا أصبح هناك حشمتلو ملك السويد، وحشمتلو شاه العجم.. إلخ. ولمّا ورَد خبرٌ عن ملكة إنجلترا “فكتوريا”، اجتهد المحرّر المغلوب على أمره وكتب أن “حشمتلها” الملكة فكتوريا فعلت كذا وكذا، وكان ذلك يعني على سبيل التأنيث، ويومها ثار المكتوبجي على هذا العبث وأمر بحذف الخبر بالكامل! ولما أكثر المكنوبجي من حذف المقالات، ضجّ الصحفيّون والكُتّاب، ومنهم “عبدالقادر القبّاني” صاحب جريدة “ثمرات الفنون”، وزار المكتوبجي يوماً وقال له: “نرجوك أن تُعيّن لنا خُطّة نسير عليها في نشر مقالاتنا، وتُرينا القانون الذي نتّبعه في تحرير صُحفنا”، فنظر إليه المكتوبجي وقال: “ألا تدري أين القانون”؟ وحين أجاب القبّاني بالنفي، وضع حضرته أصبعه على دماغه وقال: “إن القانون هُنا..”! وتستمرّ نوادر المكتوبجي، في فرض آرائه المزاجية على كلّ ما تكتبه الصحافة، حتى زال هذا الغمّ عن كاهل المشتغلين بالحرف بزوال سُلطة البيت العالي في عام 1924، فقال أمير الشّعراء “أحمد شوقي” مُبتهجاً قصيدةً يحمد الله فيها على ذلك، ومنها: لنا رقيبٌ كان ما أثقلهْ الحمدُ لله الذي رحّله لو ابتلى اللهُ بهِ عاشقاً مات به، لا بالجَوى والولهْ لو دام للصُّحفِ ودامتْ لهُ لم تنجُ منهُ الصُّحفُ المُنزّلةْ إذا رأى الباطل غالى بهِ وإن بدا الحقُّ لهُ أبطلهْ