في خصوبة التباس المعنى.

يرى الفيلسوف فتحي المسكيني في كتابه فلسفة الأشياء الصغيرة أن الحربَ المستعرة على الإنسان ليست واقعةً سياسيةً أو حضاريةً عابرة، بل هي نتيجة قرارٍ ميتافيزيقيّ اتخذته أوروبا الحديثة منذ قرون، حين جعلت من الإنسان مركز الوجود ومن العقل مقياس كلّ شيء. بذلك القرار، كما يقول المسكيني، نصّبت الإنسانيةُ الأوروبية ذاتها حاكمةً على العالم، وفتحت أفقًا أخلاقيًا للعقل العلمي يقوم على الهيمنة والتشييء. هذه الفكرة - على عمقها التحليلي - تشكّل نقطةَ انطلاقٍ لقراءةٍ أخرى أقدّمها هنا، إذ أرى أن المأزق لا يكمن في القرار الأوروبي فحسب، بل في تصوّرٍ ميتافيزيقي أعمّ جعل المعنى نفسه ضحية الوضوح الزائد، حتى كاد أن يفقد التباسه الخلّاق. فمنذ أن نصّبت الحداثةُ الإنسانَ سيّدًا على العالم، تحوّل الفكر إلى وعدٍ بالتفوّق لا إلى طريقٍ للفهم. إنها ميتافيزيقا السيادة التي شيّأت العالم باسم الحرية، ثم شيّأت الإنسان نفسه باسم العقل. في مواجهة هذا التعالي حاول سبينوزا أن يعيد الإنسان إلى نظام الطبيعة، فوَحَّد الجوهر وألغى الفاصل بين الخالق والمخلوق، وبين الروح والجسد. لكنه في سعيه إلى الوحدة أذاب الإنسان في الضرورة، فلم يترك له من الحرية إلا أن يعرف أنه غير حرّ. فإذا كانت الميتافيزيقا الديكارتية قد جعلت الإنسان مالكًا للعالم، فالميتافيزيقا السبينوزية جعلته مملوكًا له باسم الجوهر الواحد. ثم جاء هايدغر ليذكّر بأن نسيان الوجود هو أصل الأزمة الإنسانية، ودعا إلى أن “يسكن” الإنسان العالم لا أن يملكَه، غير أن هذا السكن ظلّ، في جوهره، سكونًا أكثر منه سكنى، إنصاتًا بلا فعل، وانتظارًا لانكشاف الحقيقة دون مشاركة في صنعها. وأمام هذه الرؤى الثلاث: الأوروبية الديكارتية التي تؤلِّه الإنسان، والسبينوزية التي تذوِّبه في الجوهر، والهايدغرية التي تُخمد فعله في الإنصات، تتقدّم رؤيتي التي ضمنتها كتابي الذي نشر مؤخراً بواسطة دار نشر فلسفة بعنوان « عناء المعنى: تأملات في التباسات الفهم والوجود»؛ لتقترح تصورًا آخر للإنسان: الإنسان مقيم في الوجود، لا مالكًا له ولا مملوكًا فيه، يعيش في علاقة من العناية المتبادلة مع العالم. قربه منه نابعٌ من حاجته إلى الفهم، وتمايُزه عنه ناتجٌ عن وعيه بأنه لا يملك الحقيقة الكاملة. فهو يتقدّم نحو العالم ليفهمه، ويعود إلى ذاته ليتأمّل حدود فهمه. وفي هذا التبادل بين القرب والتمايز تتكوّن إنسانيته؛ إذ لا يكون الإنسان إنسانًا إلا بقدر ما يشارك العالم حضوره، وبقدر ما يدرك أن حضوره هذا ليس امتلاكًا، بل مشاركةً ومسؤوليةً ووعيًا بالمسافة. في هذا الأفق لا يكون المعنى واضحًا ولا يمكن أن يكون. فهو يلتبس بين معناه الوجوديّ الذي يتصل بكون الإنسان كائنًا يفهم، ومعناه اللغويّ الذي يتصل بكيفية التعبير عن هذا الفهم. وهذا الالتباس ليس نقصًا في المعنى، بل مصدر خصوبته. فالوضوح التامّ موتٌ للمعنى، أما التباسه فدليل على حياته. فبقدر ما يلتبس المعنى يتجدّد السعي الإنساني نحوه، وبقدر ما يتعدّد يتّسع أفق الفهم، إذ لا يفكّر الإنسان إلا حين لا يفهم تمامًا. ومن هذا الالتباس تنشأ نتيجته الأخلاقية. فمن يدرك أن المعنى لا يُمتلك يتعلّم التواضع ويقبل التعدّد ويحتمل الاختلاف. إن وضوح المعنى هو ما يلد الإقصاء، أما التباسه فهو ما يفتح باب التسامح والانفتاح. فحيث يزول الالتباس يزول الحوار، وحيث يزول الحوار يختفي الإنسان بوصفه كائنًا يفهم ويؤوّل ويصغي. إنّ عناء المعنى ليس بحثًا عن وضوحٍ ضائع، بل دفاعٌ عن حقّ المعنى في الالتباس، وعن ضرورة أن يظلّ الإنسان كائنًا متسائلًا لا مالكًا للحقيقة. فالمعنى لا يُعطى جاهزًا، ولا يُمتلك بوصفه يقينًا، بل يُنشأ في المسافة بين الإنسان والعالم، في فعل الفهم الذي هو عنايةٌ ومسؤوليةٌ معًا. المعنى لا يُكتشَف ولا يُحتكَر، بل يُجاوَر ويُشارَك. وفي هذا الجوار يتأسّس الوجود الإنساني على التبادل لا التملّك، وعلى العناية لا السيطرة، حيث يفهم الإنسان العالم كما يفهم نفسه: بقدر ما يحبّ، وبقدر ما يعترف بحدوده. بهذا الفهم يصبح الالتباس أصلًا للمعرفة ومصدرًا للأخلاق وسرًّا لاستمرار الإنسان في السؤال. فحين يزول الالتباس يتجمّد المعنى، وحين يتجمّد المعنى يفقد الإنسان علّة تفكيره وامتنان وجوده. ومن هنا يكون عناء المعنى هو القدر الإنساني الأجمل: أن يظلّ الإنسان في مسيرته بين الفهم واللايقين، باحثًا عن المعنى لا ليملكه، بل ليُبقيه ممكنًا.