ماهيّتنا في تقلبات السرد الزمني.

يميزني التوائُم مع الأنساق التي أنتمي لها، توائمًا قيميًا ونفسيًا، ويتماهى كياني في الركض المشحون بالاحتياجات المعنوية قبل غيرها، بَيد أني أنتمي كذلك للتباطؤ حين أتنحى عن الصورة الجماعية ويبقى في الكواليس مشهدي وحدي، فتأخذني وقفة وجودية، تأتي بعد انغمارٍ متشبّعٍ بالركضِ المعنوي، تستوقفني فيه لحظةٌ استلهمتها من هذا الوجود الذي نحن فيه الفاعلون بمختلف مسالكنا… وأسأل نفسي فيها: هل لي أي دور في كل هذه الحكاية الوجودية! غير أن هذا التساؤل لا يُعنى بالوظيفة الاجتماعية، بل يتجاوزها إلى سؤال جوهري أعمق: ما العلاقة بين وجودنا وأفعالنا؟ هل تسبق الماهية الوجود، أم أن الفعل هو ما يمنح الوجود ماهيته؟ هذا السؤال يعيدني إلى التمييز الذي حاكه أرسطو في فلسفته الشهيرة بين القوة والفعل،أرسطو يرى أن كل كائن طبيعي يحمل في ذاته قوة معينة، لكنه لا يُحقق ماهيته إلا إذا انتقل إلى الفعل، ومع ذلك، فإننا نتجاوز هذا الإطار نحو إشكالية الهوية الحديثة، حيث لم تعد الذات بجميع أدوارها جوهرًا ثابتًا، بل مشروعًا يتشكل عبر الإنجاز أو الإخفاق وبأي منظور يتم التصنيف! وفي امتداد هذا المنظور، يتنامى استفهام متجذر بين التمكّن والتعجيز، برغم القوة الكامنة والقدرة على الفعل، وبرغم الفعل المحقق، والأدوار التي نعتنقها، هل يمكننا إحداث فرق؟ إنه استفهام عن الفاعلية في مواجهة الحتمية، وعن قدرة الذات على التموضع في عالم لا يضمن لها حرية مطلقة من خلال أفعالها، ومن ثم، فإن التوتر بين ما ينبغي فعله كنداء داخلي، وما يجب فعله ليأخذ مكانه كدور في العالم ويُصبح مرئيًا، يعكس صراعًا بنيويًا في تشكّل الهوية، هذا التوتر يحيلنا إلى جدلية تُشعرنا أن الوعي بالذات لا يكتمل إلا عبر الاعتراف من الآخر، لكن هذا الاعتراف، في المقابل، يحمل خطر التحول إلى كائن-للآخر، حيث تفقد الذات استقلالها وتصبح رهينة نظرة الآخر! وهنا تبرز مفارقة الأصالة: كيف نحافظ على الذاتية دون أن ننفصل عن التواصلية؟ كيف نكون أصيلين في عالم يطالبنا بالتوافق؟ في هذا السياق، يقدم العالم ريكور تصورًا تأويليًا للهوية عبر مفهوم “الهوية السردية”،حيث تُفهم الذات كبناء يتم عبر السرد الذاتي، إذ يميز ريكور بين الهوية-المماثلة والهوية-الذاتية ويقترح أن الهوية الحقيقية هي توليف بين الثبات والتغير، بين التعرف والاستمرارية الأخلاقية، السرد هنا ليس اختراعًا حرًا، بل تأويلًا مقيدًا بالوقائع، بالأدوار، بالشهادات، والبنى الاجتماعية، فمجددًا يغدو السؤال ما الفرق الذي يحدث! وليس هل يمكننا فعلها! ومن خلال هذا التوتر بين الواقع والمعنى، تتشكل الذات ككائن يروي ذاته، ويعيد تفسير ماضيه، ويعيد تشكيل حاضره، ويفتح إمكانيات مستقبله، عبر كل شيء، عبر الدور، عبر الفرق، عبر الأثر وحتى العدمية.. إننا نولد ضمن أطر تحدد مسبقًا ما يمكن التفكير فيه وما لا يمكن، ومع ذلك، لا يمكن أن نلغي إمكانية المقاومة، إذ يبقى هناك فائض من الذاتية لا يمكن للنسق استيعابه كليًا، هذا الفائض هو مجال الحرية الممكنة، حيث يمكن للذات أن تعيد تشكيل نفسها في مواجهة تقنيات الوجود.. من المهم أن نتفهم أن كل الأسئلة الفلسفية الكبرى بمختلف تشعباتها لا تظهر في الحياة اليومية، بل تتجلى في لحظات الأزمة الوجودية، حين ينهار السرد المعتاد الذي كنا نرويه عن أنفسنا، والذي نعدّه امتداد لنا في لحظات حيوية كثيرة، تعبر هذه اللحظة عن “القلق الوجودي”، حيث تنكشف الذات أمام العدم، والموقف المحيًر، وتسقط الأقنعة الاجتماعية وتواجه حقيقتها المحدودة، هذا الانكشاف يريحني برغم المتاهة الوجودية التي يسقطني فيها، لأنه شرط الأصالة، وركيزة الحذف والتأصيل، حيث لا يعود للذات جوهر سابق، بل تصبح مسؤولة عن تحديد ماهيتها عبر اختياراتها… إن الحرية في هذا المنعطف قد تغدو نكبة أحيانًا؛ لأنها تعني مسؤولية كاملة عن الذات، دون إمكانية إلقاء اللوم على الظروف أو النسق. إذًا، هل أفعالي تعبر عني، أم أنني مجرد انعكاس لأفعالي؟ إن هذا السؤال يلخص التوتر الأساسي في فلسفة الذات المعاصرة: بين الفاعلية والبنية، بين الحرية والحتمية، بين الذات والنسق، والإجابة الأكثر تشددًا: كلاهما معًا، في توتر دائم لا يُحل، كلاهما هوية وذات وفعل وانعكاس، كلاهما قيد، لأننا نُكتَب عبر اللغة والأنساق والتاريخ، والآخر، لكننا أيضًا نُخلد عبر التأويل والسرد والاختيار، وهذا التأويل هو فعل وجودي يعيد صياغة من نحن… في النهاية، ربما يكون السؤال نفسه هو الهوية، والحيرات الكبرى هي الإنسانية والمعنى الحقيقي للأصالة، نحن الكائنات التي تسأل عن نفسها، عن ماهيتها، عن جذور أفعالها، عن مكانها وإمكاناتها، وفي هذا السؤال المستمر، تكمن أصالتنا وإنسانيتنا لأننا نرفض التمدد في الوجود بالمعطيات، فالماهية ليست معطى، بل فضيلة، ومُهمة، ونحن محكومون بإنجاز هذه المهمة دون دليل تشغيل واضح، في عالم لا يضمن معنى مسبقًا، وضمن أنساق تحاول أن تحدد لنا ما يجب أن نكونه، نحن مسؤولون عن إدارتنا في العمق، بصرف النظر عن فلسفة القوة ومدخلات الفعل، وبعيدًا عن تفسيرات الإنجاز والإخفاق في العقل الجمعي، إن المأساة والعظمة الإنسانية تكمنان في نفس المكان: نحن ملزمون بأن نكون مقيدون وفضلاء في وقت واحد، وأننا في قمة القيد الوجودي حين نعبّر عن ذواتنا نسترشد بجواهرنا في العُمق، بلا وقفات محيّرة عن الأنا وقوة المعطيات مقابل أعماقنا، المهم ألا نشعر بالنفي إثر سلسلة مبهمة من التحركات تحرضها استفهامات الهوية وماهيتنا في الوجود! … المهم ألا يحجّمنا السؤال، ولا تعطبنا الإجابة، ولا تحرمنا من اليقين نحونا أي متاهة.