طقوس الكتابة: بين الإلهام واللاوعي

لا توُلد الكتابة من فراغ، بل تأتي غالبًا وسط طقوس غريبة، لا يفهمها سوى من عاش لحظة الكتابة بكل تفاصيلها. يتعامل كثير من الكُتاّب والشعراء مع الكتابة على أنها حالة شعورية خاصة، لا تتحقق إلا ضمن أجواء معينة، قد يراها البعض ضربًا من الخيال أو المبالغة، لكنها بالنسبة لصاحبها ضرورة لا غنى عنها. فذاك الشاعر لا يستطيع أن يكتب بيتاً واحداً إلا وهو في عزُلة تامة، على أطراف الجبال أو تحت ظلال الطبيعة. وآخر لا يبدأ سطوره إلا بعد أن يحتسي قهوته المفضلة، أو يعيد سماع موسيقى بعينها تستدعي ذاكرة النص داخله. بعضهم لا يكتب إلا ليلًا، وآخرون لا ينفتح خيالهم إلا في ساعات الفجر الأولى، وكأن لكل نص موعدًاً لا يعرفه إلا صاحبه. ما يثير الدهشة أن كثيرًا من هذه الطقوس لا يُدرك الكاتب نفسه سببها؛ هو فقط يشعر أن لحظة الكتابة لا تبدأ إلا بها. وكأن الإبداع يأتي مشروطًا بحالة نفسية، أو بيئة حسية، تفُجّر داخله الرغبة في السرد أو النظم أو التحليل. ولا يختلف الشاعر عن الكاتب في هذه الطقوس، فالغاية واحدة: الوصول إلى نصّ نابضٍ بالحياة، قادر على أن يلامس الشعور، ويأسر المتلقي في أعماقه. بعض الكُتاّب، بطبيعتهم، أكثر وعيًا بهذه الطقوس، فيختارون الزمان والمكان والأشياء التي تحُفزّهم، دون أن يكونوا أسرى لها. فهم يدركون أن الكتابة لا تقتصر على مكان مغلق أو مشروب معين، بل على ما يُثير الدهشة في داخلهم. ورغم ذلك، فإن كثيرًا من النصوص التي نقرأها ونعُجب بها، تقف خلفها طقوس طويلة من التحضير، والتأمل، والقراءة العميقة، والصراع مع الورقة البيضاء. إنها نصوص وُلدت تحت ضغط الرغبة، وتجلّت من عمق الشعور، واحتاجت إلى طقوس دقيقة كي تظهر بهذا النقاء. أيها القارئ، حين تقرأ نصًا أو قصيدة، لا تمرّ عليه مرور الكرام. استشعر كل حرف، وتأمل خلفية الكلمات، لأن وراء كل جملة قصة، ووراء كل فكرة طقس، ووراء كل نص قلبٌ نبض ليكتب.