السيرة الذاتية للواء طبيب عطية الزهراني..

حياة ثرية بين الطب والحرب.

لفتت نظري الصورة على غلاف الكتاب، صورة كثيفة التعبير لكاتب السيرة وقد قسمت بشكل عمودي إلى نصفين، أحدهما يظهر الكاتب بلباس الطبيب المعهود، والنصف الآخر يكمل الأول والرجل في لباس العسكرية. في معظم البلدان ينفرد الجيش بخدمات طبية خاصة، ويحمل مجموعة من الأطباء رتبة عسكرية، وبعض أفراده يتخصصون في طب الحروب والكوارث، وجراحات التجميل لإصلاح تشوهات الحرب، لكن الفريد في هذه السيرة أن صاحبها عمل في أكثر من ميدان عسكري، وهذه التجربة لم تتهيأ لمعظم زملائه.     ولكن ذلك لم يكن أكثر ما لفت نظري، بل إن عرض الطبيب لطفولته بين الطائف وقريته قرب الباحة كان عرضا جاذبا اقتسم مع قارئه الحنين إلى ماض فيه الكثير من الجمال. يظن أبناء الأجيال التى تلت جيل الكاتب أن جيله قضى مرحلة الطفولة وشرخ الشباب محروما من السعادة والمتعة، فالأجيال التي كبرت مع وسائل التواصل الجماعية، ومع مئات القنوات التلفزيونية عبر الأقمار الصناعية، ثم مع انفتاح مساحات واسعة للترفيه لم يكن الخيال يجرؤ على تصورها، لا تعتقد أن من سبقها كان يعيش حياة غنية بما يشغل وقته ويستهلك طاقته ويمتعه، ويمنحه خبرة عملية لا يسهل الحصول عليها اليوم. لم أشعر وأنا أقرا ما كتبه عن طفولته أنه كان يشكو من الحرمان أو من الفراغ.  نشأ في بيت رجل مكافح عمل مجندا بالشرطة مكتفيا بالشهادة الابتدائية ليعيل أسرة والده وأسرته، رغم ذلك كان الأب حكيما، يجيد تربية أولاده، يراقب تقدمهم الدراسي من بعيد، يوجههم بحكمة وبغير إجبار، يعدهم بالمكافآت ويحققها عندما تتوافر له، حمل عطية حقيبة أخيه التى استعملها الأخ خمس سنين، وهو يعده بأخرى جديدة، وأمه ترتق تشققاتها، حتى تحقق حلمه بحقيبة جديدة في نهاية المرحلة الابتدائية، يا لسعادته، وهنائه. لم يكن هناك رياض أطفال، يريد أن يصحب أخويه إلى المدرسة، لم يصل بعد إلى سن الدراسة، ووالدته تمنعه من الاختلاط الكثير مع الأولاد حتى لا يصاب بالحصبة التى أخذت حياة أحد إخوانه، لكنه في الصيف يذهب إلى المسجد ليدرس هو وأقرانه، مدرسهم طالب في المرحلة المتوسطة، وأستاذهم يصبح طالبا في حلقة أخرى، يدرسه طالب في المرحلة الثانوية، يعودون إلى بيوتهم وقد فازوا بالحلوى والبسكويت. جزء من إجازاتهم السنوية يقضونه في القرية، الأطفال ذكورا وإناثا يرعون الغنم والنساء يجهزن الفرن للخبز وحبوب البن للقهوة ويحملن الماء من البئر للشرب والاغتسال، فيما الرجال يزرعون ويحصدون. وحين يصف الطفل السواني التى تعمل فيها الثيران، فإنه يصف استخراج الماء وصفا دقيقا مغرقا في التفاصيل، رغم أنه رسب في الرسم، لأنه رسم أرجل الماعز كل رجل بلون، ولكن الحياة توسع الخيال. القرية لها حكيمها، ومجبر كسور أبنائها، وطبيب أعشابها، ولها حلاق يختن أطفالها، والحياة تسير وإن بصعوبة وقسوة أحيانا، تشبه قسوه المدرسين والعقاب البدني الشديد بلا سبب، ونادرا ما يتورع مدرس عن الضرب، لكن أحدهم كان حكيما، أضرب جميع الأولاد عن حل الواجب، يريدون أن يتفرغوا لمتابعة بطولة الخليج لكرة القدم ، أشبه الأمر أن يكون عصيانا مدنيا ، أخرج المدرس ابنه وهو طالب في الفصل، وأخرج عطية لأنه كان الأول على الفصل، عاقبهما أمام الطلاب فكان هذا رادعا للجميع. أول مظاهر الحياة الحديثة كان التلفزيون، دخل بينهم قبل الثلاجة والغسالة بست سنوات، أصبح هناك فرق، لكنه استدل على الإذاعة مبكرا، قلب الإذاعات المحلية والأجنبية استمع إلى نشرات الأخبار، واستطاب أغاني أم كلثوم وغيرها، ثم استدل على التسجيلات، كثير من ثقافته الدينية أخذها من أشرطة الشيخ أحمد القطان الكويتي، عاش مع قضية فلسطين منذ نعومة أظافره ثم مع أفغانستان، ما حدثه أبوه به عن فتنة احتلال الحرم أبعده عن التشدد الديني، يميل إلى السماحة والموعظة الحسنة، شارك في نشاط الثقافة الإسلامية، أعد صحف الحائط، ولكنه حُرم من الجائزة لأنه لم يكن ملتحيا، خاف من مستقبل يقسم الناس إلى ملتحين صالحين، وطالحين غير ملتحين، حيث يصبح الشكل أهم من الجوهر. عندما كان في السنة الثانية من كلية الطب استضاف أستاذه الأوروبي فكان له دليلا سياحيا في الطائف التي قدم إليها من أبها، اجتمع به متدينون من الزملاء، لاموه على احتفائه بالكافر، لم يرد عليهم حتى لا يوصم بالعلمانية ، ثم تلا الآية الكريمة ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم، ولم يظاهروا على إخراجكم أن تبروهم و تقسطوا إليهم.) ، تعلم الحوار من مجالس أبيه وجده والجرأة كذلك، جاء لزيارة الكلية مدير الجامعة، سلم عليه  وشكره على ما يقدم للتعليم الطبي رغم ذهول مرافقيه، وحضر معرضا فنيا أعجبته لوحة رسمها الأمير خالد الفيصل، فأرسل له رسالة يستوهبه إياها، تلقى ردا حسنا وصورة موقعة للوحة “سحاب”. شعر بالحرمان مرة واحدة، حين اجتاحت الأمطار الطائف واستباحت بيتهم الطيني، فلجأوا إلى بيت أحد الأصدقاء، كان بناءً مسلحا لا تستبيحه الأمطار. درس الطب حتى يعالج والدته التي أصيبت بمرض القلب، والتحق بمستشفى الهدا العسكري حتى يتيح لوالديه الرعاية الصحية التى كانا يتوقان إليها.  في مستشفى الهدا تعامل مع الكويتيين الذين خرجوا هربا من غزو صدام، أحس بالمصيبة. حبه للانضباط جعله يلتحق بالعسكرية، صمد أمام التدريبات الشاقة في الحر والقر، والنوم في العراء تحت تهديد العقارب والثعابين، واختير لمهمة استراتيجية سرية، أحس بمسؤوليته عن حماية الوطن .  ذهب للاختصاص في الجراحة في فرنسا، رغم عقبة اللغة صمد مع التدريب الشاق، تدرب في تسع من فروع الجراحة مدة مجموعها أربع سنوات، حفاوة أستاذه الفرنسي استنفرت عنصرية مساعد الأستاذ الذي قال له: إن الفرنسيين أحق بهذه الفرصة منك، للأسف العنصرية موجودة في كل مكان، ولكن تحت السطح وسرعان ما يظهر لها قرن وناب، حماه أستاذه الفرنسي، الذي كان حريصا على إيصال انطباع حسن عن الطب في فرنسا. أحب عطية الفرنسيين وتعلم من أسلوبهم الراقي فى الحوار، وأناقتهم وجمال ازيائهم ورقة عطورهم ، وروعة مدنهم، لكنه كان مجبرا على التعامل مع كلابهم المدللة، للكلاب مزينوها وأطباؤها بتخصصاتهم المختلفة، يتاح للكلب عند الصداع أن يحصل على أشعة الرنين المغناطيسي، ورغم ذلك يخرجون كلابهم إلى الشارع مرتين في اليوم حتى تتخلص من فضلاتها، وقلما يسير أحد مئة متر في الشارع دون أن يتلوث حذاؤه بفضلات الكلاب. الأسرة التى أقام عندها ككل الأسر الفرنسية لها تقاليد أنيقة في الطعام، ولها فنونها في تدبير المال، لا سهر بعد العاشرة، والعشاء يتضمن لحم الخنزير، حتى يوفروا نصيب عطية. وإذا احتاج الدكتور إلى استعمال الهاتف، فهاتف الشارع قريب. بعد هذا الإرهاق أصيب بانزلاق غضروفي ألزمه السرير أسابيع، حصل على تخصص فرعي في جراحة الغدد والثدي من جامعة الملك فيصل ، أصبح رئيسا لأقسام الجراحة في مستشفاه ونائبا للمدير العام للمستشفيات العسكرية في الطائف.  عمل علي إعداد المستشفى الميداني السعودي بألبانيا. استغرقت البعثة الطبية أسبوعين حتى عثرت على الأرض المناسبة، جاءت بعثة صهيونية عالجت مريضتين وأخذت عشرات الصور مع مهجري كوسوفو، ثم رحلت، أصبح عطية مسؤولا عن قسم التنويم سعة خمسين سريرا، يعمل معه أطباء وممرضات من المهاجرين الكوسوفيين، الكارثة تطارد الجميع، كان يتحدث يوميا إلى الإعلام، نشرت جريدة عكاظ في صفحتها الأولى إشادة بالدكتورة السعودية عطية الزهراني!!  أهلته التجربة ليعمل مع المستشفى الميداني السعودي في بغداد بعد الاحتلال الأمريكي وسقوط صدام، أصبح العراق المحتل مثل فلسطين المحتلة، جاب آفاق المدينة التاريخية التى أصبحت مسرحا للاقتتال واللصوصية والاغتصاب، حل الأمريكان الجيش والشرطة فأطلقوا عنان الفوضى التي اكتوى الجميع بنارها حتى قالوا: نريد أمانا، لا نريد ديمقراطية. اشتعلت النار في المستشفى، أنذر الجميع بالإخلاء، كان عطية يجري عملية لطفل تمزقت عضلاته بسبب الرصاص، إن أخلى عطية سيموت الطفل، أكمل العملية، كادت النار تأكل غرفة العمليات، تمت العملية وتوقفت النار في اللحظة الأخيرة، مستقبل العراق مؤلم والطائفية تأكل الأخضر واليابس.  المهمة التالية كانت إنشاء وإدارة المستشفى الميداني في عاكفة بنجران، مبانٍ متنقلة ومهبط للطائرات وخنادق، مدينة صغيرة، جاءتها هجمات صاروخية لكن الله سلم، اضطربت نبضات قلبه، أُدخل العناية المركزة.  عين بعدها مديرا لمستشفى الملك سلمان في تبوك، المستشفى يعمل فيه ستة آلاف موظف، فيها مئتا سرير للولادة وقسم لزراعة الكلى وقسم لأطفال الأنابيب، ومدرسة إنجليزية، يدرب طلاب كلية الطب، ويقدم برامج التعليم المستمر، ودورات عملية لاكتساب المهارات، و تدريب الاختصاصيين، إلى النشاط الرياضي وخدمة المجتمع، عالج إحدى المريضات، كتب الله لها الشفاء قالت له إنها تهب ابنتها زوجة له.، للأسف لم يكن ينوي التعداد.  توفي الله والده، فاحتاجت أمه إلى تغيير صمامات القلب للمرة الثانية، نصحها ابنها بالتريث لكنها قالت والرضا بأمر الله يملأ جوانحها : إما أن تنجح العملية فأحيا مرتاحة، وإما أن تفشل العملية فأموت وارتاح، رحمها الله.  أسلوب الكتاب أدبى جميل، لكنه في بعض الصفحات يكتسب لغة التقارير الإدارية و خاصة حين يكتب عن سياساته الإدارية، وهي سياسات مفيدة، ورغم ذلك يحافظ السرد على طلاوته في أغلب الأحيان.