“فخ الإبداع السينمائي بين إسعاد وإشقاء المشاهير”.
في عالم الفن، غالباً ما تتناسب سعادة الجمهور بالدور طردياً مع تعاسة بطله اللاحقة. عندما ينجح ممثل أو ممثلة في دور استثنائي يثير الجدل أو يخترق التابوهات الاجتماعية، يتحول هذا التميز إلى مصدر تعاسة مزدوجة: التعاسة المهنية في عدم القدرة على تجاوز القمة، والتعاسة الاجتماعية في الارتطام بالوصم الأخلاقي والثقافي. هنا، نغوص في أزمة “عدم القدرة على التجاوز” التي تطارد المشاهير، ونقارن بين تداعياتها في السياق الغربي والسياق العربي. أولاً: السينما العالمية.. تعاسة الوصم الأيقوني وحصار النجاح: في الغرب، يكون مصدر التعاسة أقل حدة اجتماعياً، وأكثر تركيزاً على الضغط النفسي والمهني الناتج عن النجاح الطاغي الذي يمنع التجاوز: * التقمص القاتل والتعاسة الداخلية: أداء هيث ليدجر لشخصية الجوكر، أسعد الجماهير حول العالم. لكن التعاسة أتت من فشل الممثل في التحرر من جوهر الشخصية المظلمة التي تقمصها بعمق. لم يكن الإرهاق جسدياً بقدر ما كان تعاسة الروح التي لم تستطع العودة إلى الحياة الطبيعية، ليتحول التميز إلى مأساة شخصية تعيقه عن العيش. * قيد التنميط والوصم الأبدي: بعد تميز أنتوني هوبكنز في دور هانيبال ليستر ولويز فليتشر في دور الممرضة راتشيد الشريرة، أوقع هذا النجاح النجمين في تعاسة مهنية. فبقدر عبقريتهما، أصبحا موصومين بأدوار الشر والقسوة. هذا الوصم قيّد خياراتهما وجعل الجمهور يتردد في رؤيتهما بأدوار مختلفة، مما خلق تعاسة مصدرها التنميط القسري الذي أعاق مسيرتهما الفنية. * تعاسة النجاح الساحق: دور هاري بوتر يجسد التعاسة في عدم القدرة على تجاوز قمة الإنجاز السابق. بالنسبة لـ دانيال رادكليف، أصبحت حياته المهنية كلها صراعاً لكسر قيد الشخصية الأيقونية التي أحبها الجمهور لدرجة التماهي. لقد شعر بالتعاسة من كونه “الممثل الذي لن يتجاوز أبداً دوره الأول”، مما أجبره على خوض أدوار غريبة ومحفوفة بالمخاطر للهروب من هذا القيد. * التعاسة في قفص الجمال والإنسانية المفرطة: يُعد نجاح دور باري هيلي في فيلم المرأة القطة (Catwoman) كمثال على التعاسة في التنميط الجمالي والجنسي المفرط. رغم النجاح التجاري الكبير الذي حققه الفيلم، فإن باري هيلي عانت مهنياً من “التحجيم الجسدي” لدورها، حيث تم التركيز على الجاذبية والملابس أكثر من الأداء الفني العميق. هذا التنميط أسهم في تعاسة مهنية لاحقة، تمثلت في حصارها داخل أدوار تعتمد على الشكل، وصعوبة إقناع النقاد والجمهور بقدراتها التمثيلية خارج هذا الإطار، ليصبح النجاح الساحق للدور قيداً يمنع التجاوز نحو أدوار أكثر عمقاً وتنوعاً. ثانياً: السينما العربية.. تعاسة التضحية الاجتماعية وعبء السلوكيات: في السياق العربي، تتعاظم التعاسة لتشمل الجانب الاجتماعي والأخلاقي، حيث يصبح الدور المميز بمثابة وصمة تُلاحق المشاهير، وتعيقهم عن التعبير الكامل عن موهبتهم. * شرير الأيقونة.. التعاسة في التنميط: عانى رواد أدوار الشر في السينما المصرية الكلاسيكية من أن نجاحهم المفرط في التجسيد أدى إلى الخلط بين شخصية الممثل والدور. هذا الوصم لم يقتصر على محمود المليجي بل طال أيضاً نجمات الشر الأيقونيات مثل نجمة إبراهيم ونعيمة الصغير. هؤلاء الفنانون والفنانات أتعسهم أن الجمهور حاصرهم في أدوار الشر، مما خلق تعاسة مصدرها التعطيل المهني وعدم رؤية الجمهور لهم في أدوار تتسم بالطيبة أو الرقة. * التعاسة في قفص الشخصية المركبة: يبرز نموذج الفنان الكبير الذي أبدع في تجسيد شخصية الشاب المعاق نفسياً والمصاب بالصرع في فيلم الإخوة الأعداء. هذا التميز الفني أتعسه مهنياً لاحقاً؛ فقد فشل هذا الفنان في تجاوز نمط “الشخصية المركبة” وحُصرت موهبته في أدوار الاضطراب. نتجت التعاسة عن التنميط وإحساسه بأنه لم ينل حقه كاملاً في التنوع، رغم عظمة الأداء الذي أسعد الجماهير. * التضحية الاجتماعية في أدوار الجرأة السلوكية: تعد الفنانة الراحلة سعاد حسني في فيلم “خلي بالك من زوزو” مثالاً جوهرياً للتعاسة النابعة من التضحية الاجتماعية بسبب دور ناجح وجريء. النجاح الفائق للفيلم بدور الفتاة “زوزو”، الذي يمزج بين البراءة وعالم الرقص الشرقي (الذي كان لا يزال يحمل وصماً اجتماعياً)، جعلها تواجه حصاراً مهنياً واجتماعياً. فبقدر ما أسعد الدور الجماهير، بقدر ما أصبحت النجمة موصومة بـ “فنانة الإغراء خفيفة الظل” والممثلة التي “تتقمص البنت الشعبية” بجرأة مبالغ فيها، ليُخلط بين شخصيتها العامة ومتطلبات الدور. هذه التعاسة أدت إلى صراع داخلي ومحاولات مستمرة لإثبات التنوع في أدوار أخرى، لكن النجاح الساحق للدور كان قيداً اجتماعياً يمنع التجاوز. * شهدت السينما العربية أيضاً محاولات جريئة أخرى لتقديم شخصيات تعاني من ميول أو سلوكيات شاذة عن الإطار الاجتماعي العام، كما حدث مع فنان قدير قدم دوراً في فيلم أيقوني من إنتاج عام 1973، وفنان آخر أجاد تجسيد صحفي يعيش نمط حياة مختلف في عمل سينمائي بارز بالقرن الحادي والعشرين. التعاسة هنا هي الأعمق؛ فالبطل يعاني من التضحية بـ “الصورة الاجتماعية” والوقوع في شرك الجدل الأخلاقي، ليصبح الإنجاز الفني سبباً في الوصم والتعاسة المستمرة. ثالثاً: قانون عدم التجاوز.. الفرق الجوهري في الثقافة: يكمن التناقض النهائي في تباين تعامل الثقافات مع عملية التجاوز، مما يحدد نوع وعمق التعاسة التي تصيب المشاهير: * تعاسة الوصم السلوكي: في الغرب، يُنظر إلى الدور الشاذ/السيئ كـ “مادة درامية” تُفصل تماماً عن الممثل. يسهل عليه التجاوز. أما في الثقافة العربية، فيتحمل الممثل مسؤولية أخلاقية على الدور، ويُخلط بين شخصيته والسلوك الذي جسده، مما يُصعّب التجاوز ويُعمّق التعاسة الاجتماعية، ويصبح الدور المميز سبباً في المنع من التجاوز مستقبلاً. * عبء التوقعات الفنية: يُعاني الممثل العالمي من تعاسة التوقعات الفنية المستمرة؛ أي عليه أن يتجاوز نفسه دائماً. أما الممثل العربي الذي تميز في دور صعب، فيعاني من تعاسة الـ “المنع من التجاوز”؛ أي يُحاصَر في الدور، ويُمنع من خوض أدوار أخرى خوفاً من حكم الجمهور على صورته الجديدة. * تعاسة فقدان الحرية: التعاسة النهائية للمشاهير الذي أسعد الجماهير بتميزهم هي فقدان الحرية. سواء كانت حرية اختيار الدور، أو حرية الصورة الاجتماعية، فإن الثمن الحقيقي للنجومية الأيقونية هو القيد الذي يفرضه الجمهور على حريات أبطالهم، مما يضمن أن تعاستهم هي امتداد لنجاحهم. في نهاية المطاف، يكشف تحليلنا لأدوار القمة، من هانيبال ليستر إلى شخوص السينما العربية التي اخترقت التابوهات، عن حقيقة قاسية: الإبداع البارع هو سِجن فني واجتماعي مغلف بالنجومية. في الغرب، يكمن التحدي في الخروج من فخ العبقرية، حيث تحاصرك الأضواء وتمنعك من التنوع، وتصبح التعاسة مهنية بامتياز. أما في السينما العربية، فإن الوصم مضاعف: فالممثل لا يصارع توقعات الجمهور الفنية وحسب، بل يصارع موروثاً اجتماعياً يرفض الفصل بين الفنان وسلوكه الممثل. لذا، يظل السؤال معلقاً: هل حقق المشاهير نجاحاً بجهده، أم أن الدور هو من أتعسهم؟ الإجابة تكمن في أن كل شهادة إشادة أو جائزة يحصدها بطل هذه الأدوار، تأتي مرفقة بعقد ضمني ثمنه فقدان جزء من الحرية والقبول الاجتماعي. هذه هي التضحية العظمى التي تدفعها النخبة المبدعة، ليبقى نجاحهم البارع شاهداً على قدرة الفن على خلق التعاسة بأبهى صورها.