في أعماق دارفور، ووسط صمت دولي غريب، تحولت مدينة الفاشر، عاصمة شمال إقليم دارفور، إلى مسرح لكارثة إنسانية لا تُصدق. سقطت المدينة في يد مليشيات قوات الدعم السريع قبل أيام قليلة، لكن ما تبع ذلك لم يكن انتصاراً عسكرياً، بل موجة من التصفيات العرقية والجرائم الإثنية (يرفض مثقفون سودانيون مسمى الأثنية ويشيرون إلى جرائم الدعم السريع ضد العرب كما حدث في ولاية النيل الأبيض وود النورة وهما منطقتان معظم سكانها من العرب حيث أبادت ميايشيات الدعم السريع قرى كاملة بسكانها ). إنها حرب تذكر بأسوأ فصول الحرب الدارفورية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. آلاف المدنيين، يواجهون الإبادة المنهجية، بينما يصمت العالم أمام برك الدماء التي غمرت شوارع المدينة. هذه ليست مجرد حرب أهلية؛ إنها حملة إثنية مصممة لمحو هويات بأكملها، في سياق نزاع مدمر يقترب من السنة الثالثة. بدأت الحرب في السودان في أبريل 2023، عندما أشعلت قوات الدعم السريع شرارة الاشتباكات بين الشرعية السودانية بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، المليشيات التي اتهمت بالإبادة الجماعية في دارفور، الذين وصفهم الروائي السوداني الكبير عبدالعزيز بركة ساكن في روايته مسيح دارفور الصادرة عام ٢٠١١، قائلا: “الجنجويد يسكنون في الأحياء الطرفية في معسكرات ضخمة، يتمظهرون في المدينة في عربات لاندكروزر مكشوفة عليها مدافع الدوشكا، وتعلق على جوانبها الآر بي جي البغيض، ويرتدون ملابس متسخة مشربة بالعرق والأغبرة يحيطون أنفسهم بالتمائم الكبيرة والخوذات، لهم شعور كثة تفوح منها رائحة الصحراء، على أكتافهم بنادق جيم ثلاثة صينية تطلق النار لأتفه الأسباب، وليست لديهم حرمة للروح الإنسانية؛ لا يفرقون مطلقا ما بين الإنسان والمخلوقات الأخرى؛ الكلاب الضالة مثلا. وارتكبت قوات الدعم السريع خلال الحرب مجازر جماعية وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، استهدفت المدنيين في عدد من المدن، أبرزها الخرطوم والجزيرة، وأعنفها في إقليم دارفور. هذه الاشتباكات العنيفة استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، مما تسبب في تعطّل واسع للخدمات الأساسية وانهيار البنية التحتية. ولم يكتفوا بهذا فهم يهاجمون المدنيين العزل في بيوتهم فينهبون البيوت ويقتلون الرجال ويعتدون على النساء. وقد وثّقت منظمات محلية ودولية عشرات الحوادث المروّعة التي تضمنت القتل خارج نطاق القانون، والاغتصاب، والنهب، وأعمال تطهير عرقي في كثير من المناطق. ما كان يُنظر إليه كصراع على السلطة تحول إلى مذبحة عرقية، خاصة في غرب السودان. وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، أودى النزاع بحياة أكثر من 150 ألف شخص، ونزوح أكثر من 15 مليون ،معظمُهم من الأقليات العرقية. الفاشر، التي كانت آخر معقل للجيش في شمال دارفور، أصبحت الآن رمزاً للانهيار، حيث يُقدر عدد القتلى في الأيام الأخيرة وحدها بأكثر من 2000 مدني، معظمهم غير مسلحين منهم 460 مريض ومرافقيهم تواجدزا في مستشفى الولادة السعودي. التصفيات العرقية في الفاشر ليست صدفة؛ إنها استراتيجية مدروسة. تُظهر عشرات الفيديوهات المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي حصلت عليها منظمة هيومن رايتس ووتش، كيف يقوم مقاتلو الدعم السريع بمداهمات منزلية، يسألون عن أصول الضحايا العرقية، ثم ينفذون إعدامات ميدانية فورية. في إحدى الفيديوهات، يُرى رجال ملثمون يسحبون عائلة من منزلهم في حي الزغاوة، يصرخون “أنتم فوريون، هذا مصيركم”، قبل إطلاق النار عليهم أمام أعين الجيران. صور الأقمار الصناعية، التي نشرتها صحيفة “تلغراف” البريطانية، تكشف عن جثث مكدسة في الشوارع وبرك دماء تمتد لمئات الأمتار، خاصة حول المستشفى الرئيسي في المدينة، الذي دُمر تماماً. هناك، قُتل مئات المرضى داخل غرفهم، واختُطِف “أبطال” الأطباء الذين حاولوا إنقاذ الجرحى، في انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي. شهادات النجاة تروي قصصاً مرعبة. أحمد، شاب في الثلاثينيات من قبيلة الفور، نجا بأعجوبة من مداهمة في حيه: “دخلوا المنزل الساعة الثالثة فجراً، بحثوا عن هوياتنا. أخي كان يحمل بطاقة تثبت انتماءه للفور، فأطلقوا النار عليه فوراً. هربت عبر النوافذ الخلفية، لكنني سمعت صرخات النساء والأطفال. هذه ليست حرباً، إنها إبادة ضد كل من لا يناصر قوات الدعم السريع “ في منشور على منصة إكس (تويتر سابقاً)، وثّق ناشط سوداني فيديو يظهر إعداماً جماعياً لـ47 شخصاً في مدينة بارا المجاورة، بينهم تسع نساء، متهمين بالتعاون مع الجيش، في عملية وُصِفَتْ بـ”التصفية العرقية الواضحة”. منظمة “الحقيقة”، المتخصصة في توثيق جرائم الدعم السريع، سجلت أكثر من 2000 حالة وفاة في الفاشر وحدها، معظمها استهدف الأقليات غير العربية. ومارست قوات الدعم السريع سياسة الحصار والتجويع على المدنيين في الفاشر حتى وصل بهم الأمر لأكل علف الحيوانات، وتتم تصفية وإعدام كل من يحاول مغادرة المدينة من المدنيين بما فيهم النساء والأطفال بدون استثناء. هذه الجرائم ليست جديدة على الدعم السريع ففي معسكرات النازحين مثل أبوشوك، شنت المليشيات هجمات سابقة شملت الاغتصاب الجماعي والحرق، مما دفع المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة إلى وصفها بـ”الانتهاكات الجسيمة”. اليوم، يُتهم الدعم السريع بارتكاب “إبادة جماعية”، كما وصفتها القوة المشتركة بدارفور الموالية للجيش. الاتحاد الأوروبي والدول العربية أدانوا هذه الفظائع، ووصفتها بعض الدول العربية بـ”الانتهاكات المروعة”. حتى حميدتي اعتذر “لسكان الفاشر عن الكارثة”، ووعد بالتحقيق، في محاولة لتبرئة قيادته وتقديم قرابين من جماعته لتهدئة الرأي العام خاصة أن جرائم الفاشر تم فضحها وتوثيقها بصورة أكبر مما حدث في جرائم العاصمة والجزيرة ومنها مجزرة “ ود النورة” التي تعد من أبشع الجرائم ، حيث قامت مليشيا الدعم السريع بتاريخ ٤/٦/٢٠٢٤ بمهاجمة قرية ود النورة في ولاية الجزيرة بغرض النهب والسلب، واستخدمت الأسلحة الثقيلة مما ادي الي سقوط مئات من الشهداء تم دفنهم في قبور جماعية. ورغم محاولات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو التغطية على جرائمهم في الفاشر إلا أن الشهود يؤكدون إن الإعدامات مستمرة، والشوارع مليئة بالجثث غير المدفونة، ورائحة الموت تخيم على المدينة. على الصعيد الدولي، عقد مجلس الأمن جلسة طارئة أدان فيها الهجوم على الفاشر، ودعت محكمة الجنايات الدولية إلى التحقيق في جرائم الحرب بدارفور. خبراء الأمم المتحدة حذروا من “مأساة إنسانية”، مطالبين بتفعيل آليات التوثيق والمحاسبة. لكن الكلام لم يترجم إلى أفعال؛ الوكالات الإنسانية محاصرة، والمساعدات لا تصل إلى المدينة التي يموت فيها الناس جوعاً وعطشاً إلى جانب الرصاص. في الفاشر، يتردد صدى كلمات المندوب السوداني لدى الأمم المتحدة: “هذا رمز جديد للمأساة التي تصنعها قوات الدعم السريع”. مع اقتراب الشتاء، وانتشار الأمراض في المعسكرات، يبقى السؤال: متى يتدخل العالم لإيقاف هذا الجحيم؟ التصفيات العرقية ليست مجرد جرائم؛ إنها تهديد لوحدة السودان نفسه. اليوم، الفاشر تنزف، وغداً قد تكون مدينة أخرى. الوقت ينفد، والصمت يُشَجِّعَ الجلادين.