قراءة في كتاب الأمير فيصل بن سلمان.. «إيران والسعودية والخليج.. سياسة القوة في مرحلة انتقالية»

بناء الأمن القومي على معادلة الهويات والسيادة والمصالح المشتركة.

مقدمة: ينظر كتاب «إيران والسعودية والخليج سياسة القوة في مرحلة انتقالية 1968-1971» للمؤلف الأمير فيصل بن سلمان آل سعود(دار جداول،2023)، ترجمة نسرين ناظر ، إلى الأهداف الإيرانية في سياق تفاعل بين الطموحات الإيرانية والأجواء الإقليمية-الدولية. حيث يتناول الكتاب الكثير من الفصول التي ركزت على عنوان الكتاب، ومن أبرز هذه الفصول: قرار 16 كانون الثاني/يناير: بريطانيا والولايات المتحدة وإيران. من ديبلوماسية القوة إلى التسوية. مبدأ نيكسون: إيران والخليج. لمحة تاريخية: كانت لإيران رغبة في الهيمنة، وبسط نفوذها على منطقة الخليج، لكن محاولاتها باءت بالفشل إلى أن تحالفت مع بريطانيا مما أدى إلى بسط إيران حكمها في الخليج، من أجل تعزيز بريطانيا لموقعها في الخليج وقَّعت عددًا من معاهدات السلام، مع دول المنطقة وما كان يُعْرف بذلك بـ((ساحل القراصنة)) وأصبح يحمل اسم ((الساحل المتصالح)) بادعاء الحفاظ على السلام البحري داخل الخليج وخارجه. أدركت بريطانيا أن دورها كقوة عالمية أصبح غير مستدام، خاصة بعد الضغوط الداخلية لتقليص الإنفاق العسكري، ما جعل استمرار وجودها في الخليج عبئًا لا يمكن تحمله، إيران، بقيادة الشاه محمد رضا بهلوي آنذاك رحبت بالانسحاب البريطاني، لكنها رأت فيه فراغًا استراتيجيًا يجب أن تملأه. الولايات المتحدة كانت القوة الغربية الأقرب لكل من بريطانيا وإيران، لكنها لم تكن مستعدة لتولي الدور البريطاني بشكل مباشر، واشنطن دعمت قرار الانسحاب البريطاني ضمنيًا، لكنها فضّلت أن تعتمد على «القوى الإقليمية الصديقة وخاصة إيران والسعودية لضمان الأمن في الخليج، ضمن ما أصبح يعرف لاحقًا بـ “مبدأ نيكسون». من ديبلوماسية القوّة إلى التسوية: في مارس 1968، أعلن الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف أن انسحاب القوات الأجنبية من الخليج العربي يُعدّ عودة للأوضاع الطبيعية واسترجاعًا للحقوق الشرعية. في المقابل، كانت إيران، عبر صحافتها، تدعو لإنهاء النفوذ الأجنبي في ما تسميه «الخليج الفارسي». رغم أن الظرف كان مناسبًا لتعاون بين إيران والدول العربية الراديكالية من أجل خليج خالٍ من التدخل الأجنبي، فإن إيران لم تكن راغبة في التقارب مع هذا المعسكر، بسبب الخلافات القومية والإيديولوجية. مبدأ نيكسون: إيران والخليج لم يكن نيكسون بحاجة إلى الكثير من الإقناع ليقود السياسة الأميركية بهذا الاتجاه. بسبب أنه يعتبر أن أحد العوائق الأساسية التي تمنع الرئيس من تأدية دور مباشر في الشؤون الخارجية هو البيروقراطية الواسعة في الحكومة الأميركية. حاول نيكسون تجنب التدخل البيروقراطي القوي عبر التركيز على ((إعادة إحياء)) دور مجلس الأمن القومي في سبيل تمكين البيت الأبيض، الاضطلاع بدور مباشر في السياسة الخارجية. مع نهاية الستينيات، أدركت الولايات المتحدة أنها لم تعد قادرة على الاستمرار في نمط التدخل العسكري المباشر في كل منطقة من العالم. ولذلك صاغ الرئيس ريتشارد نيكسون ومستشاره هنري كيسنجر رؤية جديدة تقوم على تفويض القوى الإقليمية الحليفة بحماية المصالح الأميركية في مناطقها، مع الاكتفاء بالدعم السياسي والعسكري الأميركي غير المباشر. هذا التوجه عُرف لاحقًا بـ مبدأ نيكسون. ومن هنا، اختار نيكسون وكيسنجر إيران بقيادة الشاه محمد رضا بهلوي لتكون الركيزة العسكرية الأولى لهذا المبدأ، بينما جرى إسناد دور تكميلي إلى السعودية باعتبارها القوة المالية والدينية في المنطقة. وهكذا تشكّلت سياسة “العمودين التوأمين”: لكن كل هذا البناء الاستراتيجي انهار فجأة عام 1979 مع اندلاع الثورة الإيرانية ووصول الخميني إلى الحكم. فتحوّلت إيران من شريك أمني للنظام الخليجي إلى تهديد أيديولوجي وجودي له، خاصة مع رفع شعار «تصدير الثورة» واستهداف الأنظمة الملكية في الخليج. من هنا دخل الخليج في مرحلة استقطاب حاد. وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى إعادة هندسة سياستها الخليجية بالكامل. فتحولت السعودية إلى الحليف الأول رسميًا، وبدأت واشنطن في توقيع اتفاقيات دفاعية مباشرة مع دول الخليج، ما مهد لاحقًا لإنشاء مجلس التعاون الخليجي عام 1981. كما انخرطت واشنطن في دعم العراق في حربه ضد إيران، ليس حبًا في بغداد، بل لمنع اختلال التوازن الإقليمي لصالح طهران مجددًا. النزاع المستعصي: شهدت منطقة الخليج العربي بين عامي 1968 و1971 مرحلة انتقالية حساسة اتسمت بتراجع النفوذ البريطاني، وتصاعد التنافس الإقليمي بين إيران والسعودية، وظهور هواجس تتعلق بمستقبل التوازن الأمني والسياسي في الخليج. اتخذت إيران في تلك المرحلة موقفًا متناقضًا بين الخطاب السياسي والإجراءات العملية. فمن جهة، أبدت طهران عداءً متزايدًا لبريطانيا، حيث عبّرت وسائل إعلامها عن مواقف حادة إزاء منح لندن الامتيازات النفطية لإمارات الساحل المتصالح حول جزيرة أبو موسى. لكن خلف هذا الخطاب، انتهجت إيران براغماتية دقيقة؛ إذ حافظت على تعاون وثيق مع بريطانيا في ملفات حيوية مثل البحرين. وفي الوقت نفسه، استخدمت إيران مسألة البحرين وسيلة لإظهار ضبط النفس وكسب ثقة دول الخليج الأخرى، وخاصة السعودية والكويت، من خلال الإقرار بحق تقرير المصير للشعب البحريني. الدور السعودي: الحذر الاستراتيجي والدبلوماسية الهادئة في المقابل، اختارت السعودية نهجًا مغايرًا يقوم على الحذر والتدرج، مدركة حساسية وضعها الداخلي والإقليمي. لم تدخل الرياض في صراع مباشر مع إيران حول قضايا الجزر أو البحرين، لكنها أسست لنهج سعودي طويل الأمد يعتمد على التوازن وتجنّب الاستفزاز المباشر. الدلالات الاستراتيجية للنزاع تكشف هذه المرحلة أن النزاع بين إيران والسعودية لم يكن مجرد خلاف على الحدود أو النفوذ المحلي، بل شكّل انعكاسًا لفارق جوهري في أسلوب التعامل مع بيئة الخليج المتحوّلة. تباين عكس رؤيتين متناقضتين: رؤية إيرانية تعتبر الخليج امتدادًا استراتيجيًا لأمنها القومي ينبغي أن يخضع لهيمنتها، ورؤية سعودية تحرص على النظام العربي الخليجي كحاجز أمام التفرد الإيراني. من النزاع المستعصي إلى ما بعد 1979 أفضت المرحلة بين 1968 و1971 إلى تسويات مؤقتة أبرزها استقلال البحرين وتسوية قضية الجزر عبر تفاهمات محدودة بين إيران وبريطانيا وإمارات الخليج. غير أنّ هذه التسويات لم تُنهِ جوهر النزاع بين إيران والسعودية، بل أجّلته. إذ ظلّت هواجس الرياض قائمة حيال الطموحات الإيرانية، فيما اعتبرت طهران أن الخليج مجال نفوذ طبيعي لها. ومع قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، دخلت العلاقة بين الطرفين مرحلة جديدة أكثر حدة، إذ تحوّل النزاع من خلاف جيوسياسي قابل للاحتواء إلى صراع أيديولوجي ممتد. السنة الأخيرة مع اقتراب اللحظة الحاسمة لانسحاب بريطانيا من الخليج عام 1971، دخلت إيران مرحلة من أعلى درجات التناغم بين خطابها السياسي وتحركاتها الميدانية، بعد سنوات من المناورة المترددة والتعبير المزدوج بين التهديد والتطمين. ففي السنة الأخيرة من الوجود البريطاني، لم يكن الشاه يتحدث بلغة الاحتمالات أو الادعاءات الرمزية، بل انتقل إلى مستوى «الفعل الحاسم» الذي يجمع بين وضوح الهدف وقابلية التنفيذ بأقل كلفة ممكنة. وقد تمحورت غايته المركزية حول فرض السيادة الفعلية على جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، باعتبارها بوابات السيطرة على مداخل الخليج، وأوراق نفوذ متقدمة في معادلة الأمن الإقليمي. وإذا كانت تلك اللحظة قد شكلت ذروة الصعود الإيراني قبل الثورة الإسلامية، فإنها أيضًا فتحت الباب أمام نمط جديد من العلاقة مع دول الخليج، ولا سيما السعودية، التي وجدت نفسها منذ ذلك الحين أمام معادلة معقدة: كيف توازن بين قبول الأمر الواقع وبين منع إيران من التمدد أكثر؟. لكن التحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة بعد عام 1979 قلبت الموازين رأسًا على عقب، إذ لم تعد إيران الشاه هي إيران الثورة، ولا بقيت السعودية في موقع المتفرج المتردد. ومع إعلان الجمهورية الإسلامية شعار «تصدير الثورة»، انتقل الصراع من مستوى جيوسياسي تقليدي إلى مستوى أيديولوجي وجودي، بحيث لم يعد الخلاف على الجزر أو النفوذ البحري هو القضية الأبرز، بل بات التنافس على الشرعية والهوية والقيادة الإقليمية. اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسين عامًا على تلك اللحظة، يبدو أن المنطقة تعود مرة أخرى إلى مفترق طرق مشابه. فالسؤال الذي طرحته أحداث 1971 لا يزال حاضرًا: هل يُبنى الأمن الإقليمي على مبدأ الغلبة والقوة أم على مبدأ التوازن والتفاهم؟ وإذا كانت إيران قد أجابت عن ذلك السؤال في الماضي بفعل عسكري مباشر، فإن السعودية تحاول اليوم أن تجيب عنه بمنطق الدبلوماسية الوقائية، من خلال إعادة تشكيل شبكة تحالفاتها الإقليمية والدولية، وفتح قنوات اتصال حتى مع الخصوم التاريخيين. غير أن الحكم النهائي على نجاح هذه الاستراتيجية أو فشلها سيبقى رهنًا بما إذا كانت طهران بدورها مستعدة لتجاوز منطق «الأمر الواقع» الذي ساد في السنة الأخيرة من الوجود البريطاني في الخليج. فما لم تتغير البنية الذهنية التي حكمت تصرفات الشاه آنذاك، فإن كل تفاهم جديد سيظل معرضًا للانهيار عند أول اختبار حقيقي، لتعود المنطقة إلى منطق القوة الذي بدأ به كل شيء. الخاتمة من وجهة نظري، لم يكن انسحاب بريطانيا من الخليج مجرد تحول في موازين النفوذ، بل اختبارًا حقيقيًا لقدرة القوى الكبرى على إدارة الفراغات الاستراتيجية بمسؤولية. ورغم أن الولايات المتحدة سعت إلى ضمان الاستقرار عبر الاعتماد على إيران كقوة رئيسية في المنطقة، إلا أن هذا النهج، وإن كان مفهومًا في سياقه الدولي آنذاك، أدى إلى انكشاف شعور بعدم الاطمئنان لدى بقية دول الخليج. لقد أثبتت التجربة أن الأمن الإقليمي لا يمكن أن يُبنى على تفويض قوة واحدة بدور الوصي، مهما بلغت قدراتها، بل على معادلة تشاركية تُراعي حساسية الهويات والسيادة والمصالح المتبادلة. فإيران، بما تمتلكه من تاريخ وثقل جيوسياسي، قادرة على أن تكون شريكًا إيجابيًا في استقرار الخليج، شريطة أن يُبنى الدور على التعاون لا التفرد، وعلى الثقة المتبادلة لا القلق المتبادل. وعليه، فإن الدرس المستفاد من تلك المرحلة هو أن الاستقرار الحقيقي لا يُصنع بالقوة وحدها، بل بالحوار والاحتواء المتوازن — وهي قاعدة ما زالت صالحة، بل وملحّة، لمستقبل الخليج والشرق الأوسط برمّته.