المتشائلون في الأرض.

أوجد الروائي الفلسطيني “أميل حبيبي”، في روايته “المُتشائل: سُداسية الأيام الستّة”، مُفردة جديدة في القاموس العربي هي “المُتشائل”، من خلال نحت كلمتيّ التفاؤل والتشاؤم معاً. تدور أحداث الرواية حول بطلها “سعيد أبي النحس” -ويُلاحَظ الرمزية في الاسم- وهو من عرب الأراضي المُحتلّة عام 1948، خلال فترة الحُكم العسكري الذي فرضه الاحتلال على المواطنين الفلسطينيين. يقول “سعيد”: “أنا مثلاً لا أُميّز التشاؤم عن التفاؤل، فأسأل نفسي: من أنا، أمُتشائم أنا أم مُتفائل؟ أقوم الصبح من نومي، فأحمد الله على أنه لم يقبضني في المنام، فإذا أصابني مكروه من يومي أحمده على أن الأكره منه لم يقع، فأيّهما أنا، المُتشائم أم المُتفائل”؟ وقذ جاء عنوان هذا المقال على نسق اسم كتاب الأستاذ “طه حسين”: “المُعذّبون في الأرض”، برع فيه بتصوير مشاهد عِدّة من الواقع المصري الأليم في أربعينيات القرن الماضي؛ واقعٌ استشرى فيه الفقر والجهل والطبقية، مجتمعٌ لا يحفل بغير ذي مال، ولا ينظر لهؤلاء الذين قُدّر لهم العذاب في الأرض. وقد كتب العميد في مُقّدمة هذا الكتاب، فقال: “إلى الذين يُحرقهم الشوق إلى العدل، وإلى الذين يؤُرّقهم الخوف من العدل، إلى أولئك وهؤلاء جميعاً أسوق هذا الحديث”. ومن هنا نقتبس أيضاٌ من تلك العبارات فنقول: إلى الذين يُحرقهم الشوق إلى المُستقبل، وإلى الذين يؤرّقهم الخوف من المُستقبل، إلى المتفائلين والمتشائمين والمتشائلين، إلى أولئك وهؤلاء جميعاً نسوق هذا الحديث.. التفاؤل والتشاؤم ظاهرة قديمة قِدم الحياة الإنسانية نفسها، فالإنسان منذ القِدم وهو يعيش في ظروف صعبة، ويُصادف ظواهر جوية وطبيعية عجيبة لم يجد لها تفسيراً، فكان يلجأ إلى التفاؤل والتشاؤم كضربٍ من ضُروب التّنبؤ بالغيب، ومُحاولة الكشف عمَا يُخبّئه له المستقبل. وكمظهرٍ لحيرته وقلقه. ولا يأتي النزوع الإنساني نحو الخُرافة، إلا من كونها سبقتْ العلم في تفسير العالم المُحيط بالإنسان، وكانت وسيلة ً اخترعها البشر للتّخفيف من القلق، والحدّ من خوفهم ووحشتهم تجاه الظواهر الطبيعية التي لم يجدوا لحدوثها تفسيراً. فمثلاً، حسب الاعتقاد الذي كان سائداً قديماً في العصر الجاهلي بالجزيرة العربية، كان من المُمكن التّنبؤ بالخير العميم إذا ظهر طائرٌ مُعيّن في السماء، وعلى العكس، كان التنبؤ بالشرّ المُستطير عند رؤية حيوان مُعيّن، أو سماع صوت طائر اعتُبر في ذلك الوقت رمزاً للتّشاؤم. ومن لطيف ما يُروى عن الأستاذ “عبّاس محمود العقّاد”، أنه كان يقف مُدافعاً عن طائر البوم، بالرغم من أن مُعظم أهل “مصر” كانوا يتشاءمون من ذلك الطائر المظلوم، وقد زاد من تقدير “العقّاد” له، أنه وضع تمثالين للبوم في منزله، وكان يستبشر بهما خيراٌ. وقد خصّ العقّاد البوم، في كتابه: “في بيتي”، بكلمة ردّ فيها اعتبار ذلك الطائر، حيث قال: “جعلتُ أسأل الشؤم في كلّ دعوى من دعاويه، وأولها دعواه الكُبرى على البومة المسكينة. ما لهذه الطريدة المظلومة، وهي قد تركت الدُّنيا والنهار للإنسان، ولاذت منه بالليل والخلاء؟ وما عيبه عليها، وهي أوفى الطيور في عِشرة الأليف؟ أليست هي إحدى الأحياء النادرة، التي يسكن الزوج منها إلى زوجه مدى الحياة؟ أليست هي التي تُغنّي لنور القمر، ولعُزلة الليل، ولا تُقحم صوتها على من يأباه؟ ألم تكن عند أهل “أثينا”، الذين يُقدّسون الجَمال في الأساطير اليونانية، رمزاً للمدينة، ينقشونه على الدراهم مع أغصان الزيتون؟ فإذا جنى الظُلم على سُمعتها، ولاحقها الظُلم في خلوتها، فليصنع ما بدا له، فإننا نتلقّاه منها باثنتين لا بواحدة، لأنها لا تُحبّ الفراق، وإن زعموها نذير الفراق”! ومع أن الخُرافات غالباً ما تنتشر في المجتمعات البدائية؛ قليلة الحظّ من التعليم والوعي، إلا أنها لا تزال تُعشعش في أذهان بعض المجتمعات التي تعتبر نفسها متقدّمة. فالقطط السوداء مثلاً، لا تزال تُشيع حالة من التشاؤم في تلك الشعوب، والسبب في ذلك عائد إلى فرضيات عِدّة، أبرزها المُمارسات السحرية في أوروبا خلال العصور الوسطى، حيث رُبط الشرّ وتلك الأفعال السحرية بالقطط السوداء. كذلك بعض الخرافات التي تَعتبر أن نثر الملح أمام الدار مانعاً لسوء الحظّ، وحامياً لأهل الدار.. ولكن من عاش في بلاد الغرب يعلم بأن الحظّ الوحيد الحسن الذي يجلبه نثر الملح أمام مدخل الدار، هو عدم التّزحلق وكسر الساق بسبب الثلج الذي يتحوّل بسبب البرد القارس إلى جليد! ولذا فإن للكثير من حُكماء الغرب والكُتّاب أقوال تستنكر وتتهكّم بمثل تلك الخُزعبلات التي لا تستند إلى العقل والمنطق.. فالأديب الإيرلندي الساخر يقول: “المُتفائل والمُتشائم كلاهما مُفيدان: فالأول اخترع الطائرة، والثاني اخترع مظلّة الإنقاذ”! والكاتب الأمريكي “وليم آرثر” يقول: “المُتشائم يشتكي من الريح، والمُتفائل يأمل في توقّفها، والواقعي يُعدّل الأشرعة”! ونختم بأبياتٍ للإمام الشافعي رحمه الله، تقول: قُل للذي ملأ التشاؤم قلبه ومضى يُضيّق حولنا الآفاقا سِرُّ السعادة حُسن ظنّك بالّذي خلقَ الحياة وقسّم الأرزاقا