ما تمنحه الكتب ..

التعاطف مع أبطال الروايات .

يحدث أن نتعب من الأيام، أن نقلق من اللا شيء، أن نخاف أشياء مجهولة، نبتعد عن أنفسنا دون وعي، نتساقط مع أنفاسنا نفسًا نفس، لنصل لتلك اللحظة التي نشتاق فيها لأنفسنا، نشتاق لضحكاتنا .. بساطتنا، نشتاق لذلك الشخص الذي كنا عليه يومًا ما، وهذا الطريق المخيف قد يوصلنا لتلك الحاله التي عناها محمود درويش في جداريته الشهيرة حين ردد بيأس غريب: “ربما ما زلت حياً في مكانٍ ما، وأعرف ما أريد”. أشعر بغربة شديدة، صرت أعيش على الكتب لكنها تخيفني قليلاً، يخيفني الصدق المختبئ بين الأوراق وانعكاسه واقعيًا على حياتي، حتى بدأت أشك بأنني أتحول تدريجيًا لإحدى شخصيات غي دو موباسان تلك الشخصيات التي تشعر أنها تعاني أو بالأحرى تشعر بأنها حزينة. هل كل ذلك يحدث بسبب الوعي . الوعي الذي يجعلك تتشبث بفكرة واحدة، فكرة أن تنجو، وكما كان يقول موباسان: “الفكَرَ المريضة تفترس الجسد أكثر مما تفعل الحمى أو يفعل السل”. حين تصاب بمرض عضوي فأنت تعالجه وتمضي، لكن حين تصاب بشيء تجهله، لا تعرف ماهيته، تعجز عن تجاوزه، لكنه يكشف لك: “أنك تعيش مثل الناس، ناظرًا إلى الحياة بعيون الإنسان المحدقة والعمياء، تفحص الأمور وتحسب أنك ترى، تحسب أنك تدرك كل ما يحيط بك، إلى أن توقن ذات يوم أن كل شيء خطأ”*. مهما حدث يظل الإنسان كائن يعيش على التعاطف، ويموت من الإهمال، يكتب ليلفت النظر، حتى وإن كان منعزلاً، فهذه العزلة بحثًا عن النجاة من خلال الأنين، فليست الكتابة إلا أنين بلغة شاعرية. أقرأ ما يكتبه أرثر رامبو وأشعر بالتعاطف معه وأكاد أبكي لأجله متسائلاً عن ماهية التعاطف مع من رحلوا قبل مئات السنين ؟ لقد كان رامبو وحيدًا جدًا، تقول إيزابيل رامبو عن شقيقها أرثر أنها كانت تحاول أن تهدئ من ألمه وحزنه، لكنها لم تستطع ذلك، لأنها كانت تعرف أن الحياة لم تكن تبتسم له. هذه هي اللحظات التي نحتاج فيها للإيمان، حين تتوه، ونتعب وينكسر شيء داخلنا نعلم في النهاية أن الإيمان هو ما يبقى معنا، هو ما ينقذنا. في العلاقات الأسرية هناك رابط لا يموت ولا ينتهي، يظل يشدنا إلى ذكريات الماضي، لتعاطف الحاضر، لأمنيات المستقبل، وفي هذه الحياة لن يفهمك فيها أحد بقدر أولئك الذي ربط بينكما القدر برباط مقدس أسمه “الأخوة”، الذين يشعرون بما تقول وأنت صامت. في رواية “غرفة مثالية لرجل مريض” كانت الأخت تحكي من خلال هذا النص المرهف الذي يتحدث عن المرض والموت والعلاقة الأخوية التي لولا المرض لم تتوطد، تقول في مطلع الرواية: “حين أفكر في أخي الأصغر، يدمى قلبي كرمانة مفلوقة”. أتخيّل موقف أخيها، أظن أنه كان يودع الحياة باطمئنان تام، لأن هناك من شعر به، من قاسمه ألمه، من سعى لإسعاده، تركت الحياة على الهامش لتكون بجانبه وكأن ليس هناك في هذه الحياة إلا هذه الغرفة البيضاء وأخيها، كان أكثر ما يؤلمها أنه ينطفئ في أجمل مراحل عمره، تقول: “موت فتى في الحادية والعشرين من عمره أمر يصعب تخيله. في السن التي لا تعرف إلا أقل الأواصر مع الموت”. في رواية “شقيقة قلبي” ولداتا أنجو وسدهى في وقت متقارب في منزلٍ واحد، منزل يحكي عن العادات الهندية والمجتمع وتقاليده، كانتا أشبه بتوأمان، تقول أنجو عن سدهى: “أحبها لأنها تمسك بيدي حين أود أن أركل العالم لغبائه، فأهدأ على الفور. أحبها لأنها تؤمن بالسحر، والألهة والشياطين، وتتمنى أمنية حين ترى نجمًا يسقط إلى الأرض .. تؤمن إيمانًا أعجز عنه”. وهذه العلاقة تشابه بعض الشيء علاقة إميلي نوثومب بأختها جولييت ذات العشر سنوات ونصف، تقول إميلي أن جولييت هي كانت حلمي. حين كانوا يسألونها ماذا تود أن تكون عند بلوغها سن الرشد، كانت تجيب: “جنّية.” تقول إميلي كيف لي ألا أعشق كائنًا له مثل تلك التطلعات؟ إذا تهنا في هذه الحياة، وأتعبنا الزمن نبحث بشكل غير مباشر عن ضلع نستند إليه، شخص لا يشعرنا بالمنه، شخص نجد فيه شيء من أنفسنا الضائعة، وجوده يمنحنا الهدوء والتماسك، تمامًا كما حدث مع عمر الحمزاوي في رواية الشحاذ لنجيب محفوظ، ذلك الشاعر المحب للأدب في شبابه، لكنه هجر كل الأشياء التي يحبها وإنشغل “بالعيش” تزوج وأنجب وأصبحت تلك الحياة ماضي سحيق، ومع تراكم الأيام، وفي لحظة واقعية أصابه مرض أحب أن أسميه “مرض الحياة”، مرض الحياة هو تلك اللحظة التي نتعب فيها من العيش. صار مُتعبًا لكنه لا يشكو عرضا من الأعراض المرضية المألوفة، كان مرضه هو الضجر من الحياة، فلم تعد له رغبة بشيء، حتى قرر الإبتعاد عن أسرته والعمل، وبكل ما يحيط به، لم يكن يعيده للحياة إلا تلك الحوارات التي يقضيها مع ابنته بثينة، تلك الفتاة التي اكتشف بشكل مفاجئ أنها تحب الأدب وتكتب الشعر، كان يتعالج من الحياة بقربها، وحين كانت تحاول أن تسبر أغواره يقول لها: “نحن رجال ناجحون ذوو سر دفين من الحزن المكبوت وليس من الحكمة أن ننكأ الجروح”. كان بقربها يحيا من جديد، يستعيد تلك الحياة التي نسيها، وما أجمل أن نجد من يشاركنا ما نحب، أن يحيي فينا أشيائنا الدفينة .. تلك التي تُزهرنا. كتب عمر في تلك اللحظة بعد حديثه مع بثينة: “دار بيننا حديث فانبعثت في نفسي أشواق غامضة إلى الكتب القديمة التي هجرتها منذ عشرين سنة”. الغربة مستمرة لنهاية الزمن، ولكل زمن غربته، وغربة هذا الزمن فردانية الإنسان التي تتشكل من خلال وحدته في كل خطوة يخطوها مبتعدًا عن عالمه وأسرته ومجتمعه، حتى نقترب لتلك اللحظة التي ينتهي فيها التعاطف الإنساني لنصبح وحيدين تمامًا. لكننا لسنا وحدنا في هذا الحزن، وهذه الوحدة وهذا الشتات، فالزمن يجمع أولئك الذين تشابهوا بوحدتهم حتى ولو تباعدوا زمنيًا، فما زلنا نردد أبيات مالك بن الريب في مرثيته حين ناجئ ابنته بعد تلك الحياة المتقلبه التي لم يشعر فيها بالطمأنينة إلا في لحظات قليلة، يقول: تقول ابنتي لما رأت طول رحلتي .. سفارك هذا تاركي لا أبا ليا وفي مكان آخر من المرثية يقول: يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا نحن لا نصف الأشياء وصفًا مجردًا من المشاعر، ولا نكره الحياة، بل نصف أثر الحياة علينا بكتابة الشعر والنصوص، وبالرسم . نعيد ترتيب أنفسنا بالفن. وفي أحيان كثيرة نحاول أن نضحك، نداري آلامنا بالضحك، وحدهم من يعرفوننا جيدًا ينظرون بعيدًا داخل أنفسنا ويفهموننا، تقول جوان ديديون عن والدها: “كان يسوده حزن شديد، حتى في تلك اللحظات التي كان يبدو فيها مستمتعًا بوقته”. هذا ما تفعله الحياة بنا، تزرع داخلنا شيء مجهول لا نستطيع تجاهله، يظل مسيطرًا علينا حتى في أكثر أوقاتنا فرحًا. هكذا نحن، نأتي للحياة من أجل أن نقاوم، من أجل أن تستمر الحياة في الدوران، لن نكون الجيل الذي يستسلم وتتوقف عنده الحياة، هذا هو تحدينا الشخصي، لكننا كذلك نريد من نقف بجانبه ونحن نقاوم، نريد أن نترك أثرًا لمرورنا، نريد من يفهمنا أو على الأقل يحاول، وهذا ما تمنحه لنا الكتب.