في ديوان (والشعر إذا تنفس) للشاعر محسن السهيمي..
فلسفة للشعر تنظيراً وتطبيقاً و التزاماً ورؤيةً للروح والأرض.
منذ البداية – وفي الإهداء – يحدّد الشاعر مفهومه للشعر بأنه وسيلة و ليس غاية، وهذا يعني إيمانه بالتزام الشاعر بوظيفة اجتماعيّة نفسيّة أخلاقيّة ، ويحدّد طبيعته بثلاثة مقوّمات تشكّل نظريّة متكاملة (الإبداع والتوثيق والذاكرة و الحكمة) فهو مَلَكة قارّة وتأريخٌ موثّق و حافظةٌ دائمة وحكمةٌ سائرة) وأنه طبيعيّ جماليّ كونيّ (بلون الربيع ونفح الخزامى ووقع المطر) وفي ضوء ذلك تمضي هذه القراءة. لقد صنف الشاعر قصائد الديوان – كما يبدو في الفهرس – في ثلاث دوائر متجاوزاً منهج القدماء في تحديد الأغراض الشعريّة إلى ما هو أعمق وأشمل وأوسع (للروح ، للحياة ، للمكان) عقليّة شموليّة مُنظّمة واعية متجاوزة كما ينبئُنا هذا التقسيم ، ففي الدائرة الأولى وفي مبتدئها تأتٍّ وانتقالات مدهشة بين فنون الخطاب ، وحِراك لُغوي وتسلسل وتدفُّق وتداعٍ منهمر ، وتبصّر وتصوّر ومخيال نسّاج وعدسة لاقطة، في قصيدته المعنونة بلفظ الجلالة يتّبع نظاماً منهجيّاً واعياً ، المساءلة التي تفضي إلى التقرير و التوكيد شاملةً مُستقصية في حِجاج منطقيٍّ مُنظّم تفضي فيه المقدمات إلى نتائج تضع المخلوقات إزاء خالقها (النهى و الروح و الريح و المدى) هذه الظواهر الكونية و الشواهد العقليّة مستدلاً بشواهده التي تنسجم مع المنطق انسجاماً واضحاً مع قوله وتعالى “و في أنفسكم أفلا تبصرون” متدرّجاً من الظواهر الكونيّة الكبرى (السماوات و الأرض) إلى الإنسان والمصير المحتوم (الموت) و البقاء المعلوم (الروح) في عقد من القول الشعري نظيم ، وكيف جعل الإنسان صورة مصغّرة للكون كما قال الشاعر و ينسب إلى علي (كرّم الله وجهه): وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر. وقد عمد إلى لغة برهانيّةِ عبر مفاصل تتمثّل في أسلوب الشرط و الاستدراك و التوكيد والاستفهام : ولو أن هذا الكون قد جاء دونما إله لكان اليوم خلقا مبددا ولكنه قد كان رتقا و مذ غدا فتاقا فإن الله قد كان أرشدا إلهي برأت الكون و الروح و الذي تناهى وما قد ناب عنا وما بدا أما عن القرآن الكريم فقد جاءت قصيدته التي استثمر فيها منظومة كونية توازي آثاره النفسية والروحية مثبتاً خصائصها الإيجابية وكمال خلقها في عقد جامع مانع ،نافياً مثالبها وأوصابها في سلسلة من أساليب النفي قاطعةً حاسمةً ، مُستمدّاَ تلك الجواهر من آي الذكر الحكيم : فهو ليس بقول ساحر ولاشاعر وإنما إلهيٌّ محض، مُنزّلُ على نبي الهدى مؤدّياً رسالته في تمام كمالها وفيض بشارتها وساطع نورها ، بلا شك ولا ريب مُعجزٌ فصيحٌ بليغٌ؛ فهو يضع كتاب الله العزيز في سلسلة منتظمة في تجاوزه للعلوم والأفهام ،وما ينطوي عليه من الجمال و الجلال وسبل النجاة والبحار والوقار وما يدّخره من الخلائق و المنطق استقراءً واستلهاماً و تدفُّقاً وتقصّياً و تفصيلاً . ثم مضى في مقاربته الشعريّة لرموز الرسالة الإسلامية ، فتحدث عن الهادي المهدي نبيّنا الكريم ( صلى الله عليه وسلم) مخاطِباً ومنادِياً و مناجِياً ، مُتبعا ذلك بجمال الخصال وكريم الخلال ، مُستلهماً كرام صفاته من فيوضات نور الفجر وغدق النهر وأشعة الشمس ، منتسباً إلى كونيّة الجلال و عظيم الخلال ، والخلاص من أخطر الضلالات من أهواء وجهل ، واصفاً دُرّية الكواكب مُعرِّجاً على الوقائع من هزيمةٍ للشرك مُبشّراً بالتوحيد و الهدي والهجرة ، حاملاً رسالة السماء إلى أهل الأرض ، متنقلاً بين مَعْلَمَيْن للهدى مكاناً و زماناً :مكة المكرمة و المدينة المنورة ، وفي موازاة هذا السياق المكاني يأتي السياق الزماني مُكمِّلاً عبر مثلثها الثالث الرسالة التي تحمل النور المُصفّى، وتتقاطع الكونيات مع الروح الإنسانية ممثلة في النبي عليه الصلاةو السلام: هناك قام التقى والنور فانلقت كتائب الحق هديا طاول السحبا وكنت كالمزن سحّاً جدت من شظف وكنت كالبدر وجهاً ضوؤه انسكبا ويمضي فتنهمر المفردات حاملةً صفاته وخصائصه، ثم تتوالى الكنايات في أسلوب النداء المتكرّر مقرونةً بصيغة التفضيل المطلق للخلق أجمعين (أصح و أجمل وأخير) ويتوالى الخطاب في التعظيم و التفصيل و الاستقصاء في تتابع عبر ضمير الخطاب في تقرير وتعليل و رجاء وعطف ومختلف أدوات الوصل و الوصف ،موجات إثر موجات لتنسج شعريّةً تليق يالتمام و الكمال والحركة الفائقة والسكون الخاشع التام . ويمضي في أنساق منتظمة فيخصّص لكل من مصائر البشر من موت ومساءلة في القبر و يوم الحشر وحقوق الضعفاء وتأملات في آيات الله و أيامه تعالى و شعائر الحج وجموع الحجيج وأهداف الحج قصائد موجّها فيها أساليب من الإثبات و النفي و الأوامر و النهي ،مشيداً بمن نذروا أنفسهم لخدمة ضيوف الرحمن معتزّاً بهم و مُعظِّما لدورهم ، وثمة قصائد استذكر فيها الشاعر مخلوقات الله مما صغر حجمه وعظمت مكانته كالنحل في تأمل عميق فقد وضع الله سرّه في أضعف خلقه، فالنحلة هذه المخلوقة الصغيرة تنتج عسلاً رائقاً صائغاً طعمه و تقدم مثالاً رائعاً في نظام عجيب لعيشها ونظم حياتها ؛ فهي آية من آيات الله في مخلوقاته عطاءً وغيثاً ودأباً ومجتمعاً مُنظّماً ، وكذلك القائمون على تربيتها : من أين جئت بأشكال و هندسة عن مثلها تحسر الأفهام و الفكر و قوله : في كل وادٍ بها للنحل مملكة عطاؤها نال منه البدو و الحضر وكذلك الكوارث ففي قصيدته (إعصار داينا) خطاب موجه إليه مُستمهلاً ومتسائلاً مستهولاً ما حدث في خطاب غير العاقل بلاغياً يفيد التمني ؛ ولكن هنا يعني الصدمة التي تُخرج المرء عن المعتاد في التفكير في لوعةٍ وحزنٍ وتسلّط العدسة على تفاصيل المشهد مستقصيةً له مثيرةً الإحساس بعظم الكارثة في تداعيات تلقائيّة وافتراضاتٍ استقصائية ، وإعادة بناء الصورة بما يكشف عن هول المأساة واستحضار حقلٍ دلاليٍّ يختزل الحدث في سلسلة من المفردات التي ينطوي عليها معجمه الشعري (القبر و الجثامين والحفر ) والأفعال التي تعبر عن معاني القوة و الدمار الهائل ومقارنتها با لأحداث الكونيّة الكبرى واستنطاق المعالم في دهشة وذهول واستمطار الرحمة من خالق الكون. وفي قصائد أخرى ينتهج الشاعر سبيل المناجاة الخاشعة لله سبحانه وتعالى في تعدادٍ مُنهمرٍ لظواهر القدرة و العظمة الإلهية وفي التفات بلاغيٍّ لافتٍ للإنسان مذكّراً بعظمة الله تعالى ومستدعياً الآية الكريمة ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون) هذي وربك يا ابن آدم مضغة شهدت بقدرة ربنا و تؤكد فالقلب محور النص ، وهو آية الله التي تشهد على قدرته تعالى ، وهو نبض الحياة و وقودها كما يقول؛ فخفقاته نبض ودفق دمائه سرّ البقاء ، ملتفتأً إلى الإنسان مخاطبا له (قلبك آية ) مُذيِّلاً للبيت الأخير بقوله (ما أجمل الآيات حين ترشد) خاتما لهذا الجزء من الديوان بمصطلحات فقهيّة ( العقل و النقل) أما (للحياة) الركن الثاني من أركان الديوان فيمثِّل رحلة الذات الشاعرة في عباب الحياة فلسفةً وتًأملاً عميقاً و نقداً وحكمةً ونجوى ، ومساءلةً في غابة مجازيّة كثيفة ، وتَجوال بين ظواهر الكون و الحياة و المجتمع ، وإطلالةً في الأعماق وكَشفاً عن الرؤى و الأحلام ، ومصارحةً وبثاً عبر استثمار للبحور التي تحتشد بالإيقاعات في تسارع حركاتها وتلبُّث سواكنِها ولَمْلَمَة أجزائها في شكلها الأفقيِّ وتوازيها ، وفي نثرها متعامدةً في أشكالها التفعيليّة الحديثة بما يتوافق مع مضامينها دون تعمّدٍ للغموض أو قصدٍ إلى ادعاء التجريب و التحديث، وقوافٍ متناغمة مع حسٍّ رُؤيَويٍ وأداءٍ لُغوي يتميّز بالوضوح والرصانة ، يتدفق فيه الشاعر بسلاسة مُنظّمه لأفكاره و وضوح كاشفٍ لإشاراته ؛ ففي قصيدته (حدثوني) يعمد إلى الترميز أشكالاً وألواناً في صياغة لأيقونة شعريّة مكافئة للقيم التي يتمثّلها في إيقاعٍ حركيٍّ منتظم أشبه ب(المارش) العسكري يتّسق مع القافية مدّاً وسكوناً وجرساً صوتيّاً تمثله الهاء الساكنة (هاء السكت) بما توحي به من جلال ٍووقار؛ أما تلك التي توميء إلى نسق الحياة وأسلوب العيش وعلائق الأدنين فتفضي بفلسفة العيش وعمق الرؤيا للزمن و طرائق الحياة و(سُدُم الغيب) على حد تعبير الشاعر ، وتميط اللثام عن المستور في وضوح الخطاب وحديث الذات والآخر في تسلسل وتوالٍ واستثمار خبير لمفردات الفكر قراءةً وكتابةً وسياحةً في آفاق الحياة والكون والطبيعة التي منها ينحت صوره ويختار مشاهده : المطر و الدوحة والدف و الكنوز وما إلى ذلك بما ينسجم مع رؤيته وأفكاره المتعلقة بما حوله . وقس على ذلك أفانين الجمال التي يختار لها ما يناسبها من صفات الأحياء و الأشياء ( الصهيل و اللؤلؤ و التأمل و الخشوع ) تجسيداً و ترميزاً و تجريداً وما يقابلها من نقائض ( الشوك) و” ضدان لما استجمعا حسنا والضد يظهر حسنه الضد” كما في القصيدة اليتيمة لدوقلة المنبجي ، و لايغفل الشاعر في تقصّيه لجوانب الحياة و تضاريس الكون فيفرد قصيدة للأرض وعلاقتها بما تفيض به من ألوان الجمال على النفوس والأرواح، و من نعم الله ويشتقُّ منها دلالات على ما تتمخّض عنه حكمة العيش وعلاقتها بالعطاء التي توازي ذلك الناجم عن صلة المطر بالأرض: “إذا ما سقتها بالمزن / بالوبل خلتها/ بساطا من الياقوت والدر يؤنس” ويمضي متقصّياً مظاهر الحياة الاجتماعية على الأرض وتفاصيلها، ملتقِطاً برهافة تفاصيلها التي تبدو عاديّة فيلتفت إليها و يجعلها موضوعاً شعريّاً ، مثل (البشت و الديك والبيع و التجمعات و النوادي (نادي جدة و الباحة) ومواقف مرت بها الذات الشاعرة) اما الركن الثالث في هذا الديوان (للمكان) ففيه سيرة موجزة لجغرافيّة الوطن وتوثيق شعريٌّ للعلائق الوجدانية به مُجملاً و مُفصّلاً ، إذ يوثّق مشاعر الانتماء بالوطن عبر حديثه عن رمزية جواز السفر السعودي حيث الربط بين الثنائيات الحسّية و المعنويّة في صور فنّية بلاغيّة و مشهديّة دلاليّة ورمزيّة وتقريريّة حسّيّة معنويّة و أيقونيّة تشكيليّة ومنظومة قيميّة أخلاقيّة وتأصيليّة تاريخيّة ، و لا يتسع المجال للتفصيل ؛ ولكن أيّ إطلالة عابرة على قصائد الديوان تنبئ عن مدى التزام الشاعر بالانتماء للوطن والاهتمام بواقعه ثقافيّاً وإنسانيّاً، و مدى ارتباطاته العاطغية و الواقعية و وفائه للماضي و الحاضر و ما هو ذاتيٌّ و موضوعيٌّ ، و لعل ديوانه (قنا قوافٍ وشجن) دليل ساطع على ذلك كما أوضحه الأستاذ الدكتور(عبدالرحمن بن حسن المحسني) في مقدمته له؛ فالشاعر لم يترك مكاناً عمل فيه أو ارتبط به إلا وقال فيه شعراً : جدة والطائف وعسير والباحة و وقنونا ونمرة (ياقوتة تهامة) وثريبات (شامة تهامة) و المخواة وقلوة و الشدوان ...إلخ و في كل قصيدة من القصائد التي عنوَن بها هذه الأماكن نسج فيها ما يميّزها و يوميء إليها من صور و مشاهد ؛ ففي جدة كان البحر والدرّ والشعر مادةً تتشكّل منها صوره الفنية ؛ وفي الطائف أتى على ذكر معالمها الجمالية و التاريخية ( الهدا والشفل و وَجّ و شبرا) وفي عسير ( شموخ الجبال و الأغوار و المربد والقلاع و الحصون والسراة والمروج و السهول و البحار و الفكر و الشعر و العرضة و الدمة) و في الباحة (الربى و السحاب و الضباب والمزن و الهضاب و رغدان وخيرة وشدا الشامي و اليمني و الشعر و السرد والفكر والفن وأيقونة الهوى) وفي قنونا (باسقات النخل و الجداول و المزن و الطير و الجذور الخمسة إيبان و رحمان و ديمران وخيطان وحفيان و حباشة و السد و وادي قنونا ) والأعلام الكبار (ثير ومريم وأبو زيد الهلالي ) وقد نالت قنا النصيب الأوفى ؛ فهي مذخور الذكريات ومأثور الجمال في القلب و الوجدان.